من التورط إلى الاستنزاف.. معادلة نارية تعيد صياغة ملامح الحرب في غزة

من التورط إلى الاستنزاف.. معادلة نارية تعيد صياغة ملامح الحرب في غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

لم تعد الاشتباكات في غزة مجرّد تبادل نار أو هجمات متفرقة، ما يجري اليوم هو انقلاب تكتيكي جذري في فلسفة المواجهة، تُديره المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا كتائب القسام، بأدوات لم تعهدها ساحات القتال مع الاحتلال من قبل، تكتيكًا وروحًا وجرأة.

فالمعادلة التي تبلورت في الأسابيع الأخيرة خرجت عن إطار “الحرب عن بعد”، لتدخل إلى عمق العمق، إلى الصفر المباشر، إلى الانغماس مع العدو.

هناك، حيث لا مجال للهروب، ولا وقت للتكتيك الرديء، إنها مقاومة تبادر، تشتبك، وتنسف “مسرح السيطرة الإسرائيلية” تحت أقدام جنوده.

القسام: استهدفنا ناقلة جند بقذيفتي الياسين 105 في خان يونس


لم يعد الهجوم المباغت حالة استثنائية في أجندة المقاومة، أصبح سلوكًا منهجيًا، في خان يونس، بثّت كتائب القسام تسجيلًا مصورًا يعكس تحوّلاً في عقلها القتالي: مجموعة مقاتلين تتوغل إلى موقع عسكري إسرائيلي، تشتبك من مسافة صفر، تستخدم القنابل اليدوية والعبوات الموجهة، وتغادر بمشهد مدروس بعناية ليُبث لاحقًا، ليس فقط كتوثيق، بل كرسالة صاعقة تُبث في وعي الإسرائيلي قبل جسده.

هذا التحول من عمليات “القنص عن بعد” إلى المواجهة المباشرة، لا يحمل فقط جرأة مقاتلة، بل رؤية جديدة للميدان، تقوم على تفكيك صورة التفوق الأمني الإسرائيلي، وإسقاطه في لحظة الاشتباك القريب، حيث تُكسر هيبة المدرعة ويُربك الجندي المدجج.

تكتيكات المقاومة والرعب الإسرائيلي.. معادن غزة تزداد نفاسة تحت النار


ما يُدهش في هذه المرحلة من الحرب ليس فقط الجرأة القتالية، بل “الإخراج الميداني”. باتت المعركة تُخاض بالكاميرا كما بالبندقية.

الزوايا المدروسة، التوقيت، اللغة المرئية، كلها تؤسس لحرب نفسية من نوع متقدم، هدفها مزدوج: تعبئة الوجدان الفلسطيني بالصمود، وبثّ الرعب في عقل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي باتت تدرك أن كل جندي قد يكون “الصورة القادمة” على منصات القسام.

كيف تكسر كتائب القسام تفوق الجيش الإسرائيلي بنمط قتالي غير متناظر؟


لم يكن التلويح بأسر الجنود صدفة دعائية، بل إعلان مرحلة، تقارير إسرائيلية كشفت عن قلق متزايد من اعتماد المقاومة على أساليب أكثر جرأة لاقتناص الجنود، كما حدث في خان يونس عندما حاولت مجموعة مقاومة أسر الرقيب الاحتياط “أفراهام عازولاي”، قبل أن يُقتل.

أجهزة الأمن الإسرائيلية تُدرك أن فشلها في منع عمليات كهذه ليس فقط خطرًا تكتيكيًا، بل ضربة استراتيجية تهز العمق الإسرائيلي: داخليًا في الثقة، وخارجيًا في صورة الردع.

كمين بيت حانون.. صواعق تحت التراب تهز أركان النخبة العسكرية الإسرائيلية


الخطر الأعمق بالنسبة لإسرائيل لا يكمن في الخسائر المباشرة، بل في معادلة الاستنزاف الجديدة، فالمقاومة تُخضع الاحتلال لتكتيك قائم على استثمار الزمن كأداة قتال. مع مرور الأيام، يتراكم الإرهاق، تزداد الخسائر، وتصبح معادلة “العربات الثقيلة” بلا جدوى.

العقيد الركن المتقاعد نضال أبو زيد يرى أن الاستراتيجية الحالية ترتكز على استهداف العصب الصلب للجيش: ناقلات الجند، الدبابات، والجنود أنفسهم. إنها معركة ضد الآلة وضد العنصر.

وقال إن المقاومة تدير توازنًا دقيقًا بين العمل العسكري والنفسي، تزرع الهشاشة في نفس الجندي، وتُهشّم صورة جيشه في الإعلام.

اللافت في العمليات الأخيرة ليس فقط كثافتها، بل تنسيقها الزمني والمكاني، خان يونس، الشجاعية، جباليا، بيت حانون.. كلها تحولت إلى مربعات نارية تعيد رسم خارطة المواجهة.

عمليات القسام والسرايا.. عنفوانٌ يشتدّ وعزمٌ يُربك حسابات العدو


فبدلاً من مقاومة مُحاصرة، نرى “قيادة مقاومة” مركزية تتحكم في شبكات قتال لامركزية، تنفذ بإبداع وبدون ارتباك، رغم مرور أكثر من 640 يومًا على الحرب.

هذا التماسك التنظيمي يُبرز فشل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية التي لم تستوعب ديناميكيات القتال الجديدة، ولا منظومة السيطرة المرنة التي تديرها المقاومة، والتي تجمع بين الصلابة والمرونة.

حرب غزة اليوم تتجاوز الميدان، إنها اشتباك على المفاهيم: من يُسيطر؟ من يُبادر؟ من يُرهِب؟ ومع استمرار المقاومة في التهديد بأسر الجنود، وإبراز مشاهد الانغماس القتالي، يُعاد تشكيل وعي الجنود الإسرائيليين، ليس كمقاتلين، بل كأهداف مُحتملة.

إنها معركة على الروح قبل أن تكون على الأرض. والمقاومة، على ما يبدو، تُجيد خوضها.