في ظل العاصفة: حياة قائد قرآني بين خفايا الأنفاق وأسلحة النخبة

في ظل العاصفة: حياة قائد قرآني بين خفايا الأنفاق وأسلحة النخبة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

أثار خبر استشهاد الشاب محمد زكي حمد، المعروف بـ”أبو زكي”، موجة حزن واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، امتدت من بيت حانون إلى قلوب كل من عرفه أو سمع عنه. لم يكن محمد مجرّد مقاتل في صفوف النخبة، بل كان أحد أبرز قادة كتيبة بيت حانون، تلك الكتيبة التي كتبت ملاحم بطولية أدمت الاحتلال وأربكته في ميدان المعركة.

في عيون من عرفوه، لم يكن “أبو زكي” مجرد اسم يتردد، بل كان شابًا صلبًا، حاضرًا في الميدان وخفيف الظل في المجالس، يقاتل بعقيدة لا تهتز، ويزرع في من حوله العزيمة والطمأنينة رغم قسوة الحرب. ومع إعلان استشهاده، امتلأت صفحات ممن كانوا على صلة به بكلمات الوداع والفخر، مستذكرين مناقبه الشخصية والإيمانية التي تركت أثرًا لن يُنسى في ذاكرة المقاومة.

ولد محمد في الأول من يوليو عام 1994، في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، حيث نشأ وترعرع. درس أصول الدين في الجامعة الإسلامية بغزة، ثم واصل دراسته العليا ليحصل على درجة الماجستير في تفسير القرآن الكريم من الجامعة نفسها. شارك في صفوة الحفاظ في غزة، بنسختيها الأولى والثانية، ونحسبه من خيرة خيرة الصفوة.

كان محمد أول من سن في بيت حانون سنة سرد القرآن كاملاً على جلسة واحدة. تخرج على يديه عشرة من الساردين المتقنين، وأقام كل واحد منهم حلقة يتولاها، وتتابع الحافظ تلو الحافظ على أيديهم، فكان له نصيب من كل آية تُرتل وتُسمع.

ترأس أكاديمية دار القرآن الكريم والسنة الإلكترونية، فانطلقت كلماته تعلم القرآن وأحكامه في مشارق الأرض ومغاربها، فبورك له في عمله، وكتب الله له أجره جارياً إلى يوم القيامة بإذن الله.

عقل وروح وثابة

المؤرخ الإسلامي محمد إلهامي، كان من بين من ارتبطوا بمحمد بعلاقة إنسانية خاصة، وإن كانت عن بُعد، إذ كتب إلهامي بعد نبأ استشهاده يقول: “فجعني خبر استشهاد القائد أبي زكي محمد حمد، وقد كُشف -بعد استشهاده- أنه كان قائداً لفصيل نخبة في كتيبة بيت حانون. رحمه الله وتقبله في الصالحين، ورفع درجته في عليين.”

القصة التي رواها إلهامي لم تكن فقط عن فدائي حمل السلاح، بل عن عقل وروح وثابة، كتب كتابه الأول تحت نار القنابل الإسرائيلية، حيث راسل إلهامي من بين أنفاق المعارك، لا ليطلب دعماً أو مديحاً، بل ليطلب رأياً ومقدمة من كاتب عرف أنه يحمل هم الأمة.

ففي يناير/ كانون الثاني 2025، فاجأ “أبو زكي” المؤرخ المصري برسالة ونسخة من كتابه “تحت راية الطوفان” الذي خُطّ تحت الأرض، بين عُقدٍ قتالية وممرات الرعب، كتب فيه عن عجائب الطوفان، عن لحظات النصر والارتباك، عن الكرامات التي رأوها والشدائد التي عبروا منها، عن القرآن الذي يحكم المعركة، ويُقيم ميزان القلوب قبل ميزان البارود.

يقول إلهامي: “كنت أقرأ الكتاب، وأتشرب ما فيه من رائحة الأنفاس وصهيلها، وغبار المعارك في الأنوف وفي الصدور.. لا أدري من أي شيء أعجب، ولا على أي شيء أتحسر..”.

ويضيف، “إن في الكتاب روحا من صاحبه، ترى رجلًا ناهلًا من القرآن متعلقا به يحسن الاستشهاد منه على المعنى الذي يريده، حركيًا عمليًا متعاملًا مع نفوس الناس وما يصدر عنها حين الشدة من أوجه ضعف أو خوف أو تردد، فقيها يتكلم في عبادات المجاهد: كيف يصلي وكيف يتطهر، بل كيف يعيد بناء المسجد الذي تهدم في المنطقة التي أبيدت لكي يثبت قلوب الناس”.

قبل أسبوع فقط من استشهاده، طلب “أبو زكي” عبر شقيقه من المؤرخ الإسلامي، أن يكتب مقدمة لكتابه بعد أن أضاف إليه شيئًا من تجدد القتال بعد 18 مارس/ آذار الماضي، الأمر الذي عده إلهامي “شرفاً لا يُرد، ولم يكن يعلم أن هذا سيكون آخر أثر يتركه محمد خلفه، قبل أن يرتقي بعدها بأربعة أيام فقط”.

في حين، كشفت شهادة الصحفي وائل حمدان عن الشهيد “أبو زكي”، عن معرفة قريبة وعميقة، ومن أثر تركه محمد في كل من عرفه واقترب منه.

يروي وائل كيف كان محمد شاباً تقياً، زاهداً، موصول القلب بالله، يحمل في صدره محبة خالصة للناس، وشغفاً لا ينطفئ بخدمة الدين. لم يكن هدفه أن يحفظ الناس القرآن فحسب، بل أن يعيشوه، وأن يكون كل شاب عرفه حافظاً متقناً، عاملاً بكتاب الله كما ينبغي.

يقول: “ما كان يرى ثغراً فيه خير للأمة إلا وسارع إلى سده، طيب القلب، كثير التبسم، تُعرف في وجهه الصلاح لمجرد رؤيته. أنفق نفسه وعمره وماله في سبيل الله”.

وحين يصل وائل إلى مقام الجهاد، تتبدل نبرة حديثه إلى ما يشبه الإجلال، “ثبت في بيت حانون، لازم ثغره، وتشبث بأرضه، عضّ على سلاحه، ولقّن أعداء الله ما يكرهون، فأثخن فيهم وآلمهم، وله اليوم فضل يُذكر على كل من يحمل لواء الجهاد من بعده في بيت حانون”.