التوثيق البصري: كابوس يلاحق الاحتلال ويقوض روايته

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
مع الساعات الأولى لمعركة طوفان الأقصى، ومنذ اللحظة التي أدركت فيها إسرائيل أن هيبتها واستقرارها، بل ووجودها، على وشك الانهيار، كان من السهل عليها أن تتخذ قرارًا بشن حرب دموية يمكن -من وجهة نظرها- ان تُعيد لها هيبتها، وتحقق معادلة الردع التي كسرتها المقاومة صبيحة ذلك اليوم، لكن ما لم تحسب إسرائيل حسابه، هو أن تطول تلك الحرب، ويتم توثيق جرائمها بالصوت والصورة، فتقع في مأزق تكون تبعاته أشدّ من “طوفان الأقصى” نفسه، بل ربما يكون أسرع مفعولاً في تقويض بنيانها.
بدا الأمر لقيادة الاحتلال التي حشدت كل قواتها بدعم أمريكي غير مسبوق، وكأنه جولة شديدة العنف، سريعة النتائج، فقررت إقامة محرقة في غزة ظنت أن العالم لن ينتبه إلى بشاعتها، لا سيما وأن الرأي العام لا يزال منحازًا للرواية الإسرائيلية، إلا أن غزة فاجأت العدو بصمودها، وبسالة مقاومتها، الأمر الذي دفع الاحتلال إلى زيادة وحشيته حتى يحقق نصرًا لا يمكنه العودة من الحرب بدونه، حتى فوجئ أن البغتة التي ظن أنها مستمرة قد انكشفت، وأنه صار على مسرح مكشوف للعالم كله، وهو يرتكب فظائعه بحق الإنسانية في غزة، وكان التوثيق الرقمي أقرب الوسائل لفضح تلك الجرائم.
فوجئ الاحتلال بأن كذبته الأولى بارتكاب حماس جرائم وحشية بحق المدنيين، لم تعد الرواية المتداولة في وسائل إعلام العالم، بل استهداف مستشفى المعمداني التي تأوي المرضى واللاجئين، ومحارق مواصي خانيونس، ومخيم جباليا، وتسوية مدن كاملة بالأرض، وصرخات النساء والأطفال، ومشاهد الأطراف المبتورة، والأمهات اللواتي يبحثن عن أبنائهن بين المقصوفين، كل هذا صار المادة الإعلامية الثابتة لكل وسائل الإعلام، حتى تلك التي تبنّت الرواية الإسرائيلية بادئ الأمر.
لحظة قصف العدو الإسرائيلي بشكل مباشر لمستشفى المعمداني في غزة.
أرشيف pic.twitter.com/8IH4Bh21uW
— همام شعلان || H . Shaalan (@osSWSso) June 19, 2025
محاولات فاشلة
أمام هذه الأزمة، لم يعد أمام الاحتلال إلا أن يُكثّف من داعيته الكاذبة، يختلق القصص.. يصوّر ما يدعيه أنفاقًا أسفل مجمع الشفاء الطبي.. ينقل للعالم صورًا لغرفٍ فارغة للإيحاء بأنها أماكن استخدمتها المقاومة لاحتجاز الأسرى وتعذيبهم.. يتنصل من بعض جرائمه تارة، ثم ما يلبث أن يعترف بها.. تقارير عسكرية يومية للمتحدث باسم جيش الاحتلال، ومؤتمرات صحفية لقادة الجيش والحكومة.. وتغطيات صحفية حصرية للرواية الإسرائيلية.. حشد غير مسبوق لتثبيت الصورة التي اختلقها منذ بدء الحرب، لكن الخرق كان قد اتسع على الراقع، وصور ضحاياه من النساء والأطفال، كانت تجوب شوارع أمريكا وأوروبا، ولم يعُد الصوت الإسرائيلي مسموعًا بين تلك الصرخات المنددة بجرائمه في كل محفل.
المشاهد الموثّقة بقيام الجنود بتعذيب الأسرى، وضحكاتهم على جثامين الشهداء، وافتخارهم بقتل الأطفال، وارتكاب مجازر في مواقع توزيع المساعدات، كل ذلك جعل الكاتب في صحيفة “هآرتس” جدعون ليفي، يكتب في 29 يونيو/حزيران: “هل ترتكب إسرائيل إبادة جماعية في غزة؟.. الشهادات والصور التي تخرج من غزة لا تترك الكثير من الأسئلة”.
حتى المعلق المعروف بدعمه لإسرائيل، وكاتب الأعمدة في صحيفة “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان، لم يعد يصدّق الرواية الإسرائيلية، ففي مقال رأي نشره في 9 مايو/ أيار، وجّهه إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أكد أن: “هذه الحكومة الإسرائيلية ليست حليفتنا”، موضحًا أنها “تتصرف بطرق تهدد المصالح الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة”.
“الناس ساحت.. الناس ولعت”.. 8 شهداء بينهم 5 أطفال وإصابة آخرين جراء قصف إسرائيلي استهدف مدرسة أسامة بن زيد لإيواء النازحين في منطقة الصفطاوي شمالي مدينة #غزة#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/eJcoqwYXXI
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) June 27, 2025
الرواية صارت غزّاوية
يقول الصحفي والمحلل السياسي جاسم الغزاوي: “في السابق، كانت الرواية الإسرائيلية محصّنة بأبواب غرف التحرير وبثقل الشعور بالذنب الغربي، لكن الهاتف الذكي حطّم تلك الأبواب. ما نراه الآن لم يعد ما تخبرنا به إسرائيل، بل ما تُريه لنا غزة”.
ويضيف الغزاوي في مقال له نشرته شبكة الجزيرة أن: “المنصات التي تحمل هذه الصور -تيك توك، واتساب، إنستغرام، إكس- لا تعطي الأولوية للسياق؛ بل تعطي الأولوية للانتشار. في حين قد يشيح الجيل الأكبر بصره، يظل الجيل الأصغر ملتصقًا بسيل المعاناة، مأخوذًا بكل بكسل، وكل صافرة إنذار، وكل لحظة دمار”.
الرأي العام العالمي في حالة غليان، وهذا يعمل ضد المصلحة الإسرائيلية -يتابع الغزاوي-؛ فلم تعد إسرائيل فقط في حرب مع جيرانها؛ إنها في حرب مع العدسة ذاتها.
نشطاء يتظاهرون أمام البيت الأبيض حاملين أواني المطبخ ولافتات تندد باستخدام الاحتلال للمجاعة سلاحًا ضد المدنيين العزل في القطاع المحاصر.. pic.twitter.com/6hZUSK5AGa
— نحو الحرية (@hureyaksa) June 7, 2025
معضلة أخلاقية
ويرى أن الأثر النفسي لهذه الحرب البصرية يتردد عميقًا داخل المجتمع الإسرائيلي؛ حيث اعتاد الإسرائيليون -لعقود- أن يروا أنفسهم رواة عالميين للمعاناة، لا مواضيع للفحص الدولي، لكن الآن، مع تدفق مقاطع قصف الجيش الإسرائيلي، وأحياء غزة المسوَّاة بالأرض، والأطفال الهزلى على كل منصة، يواجه العديد من الإسرائيليين معضلة أخلاقية متنامية.
وأوضح الغزاوي في مقاله أن هناك قلقًا، حتى بين الوسطيين، من أن هذه الصور الحسية تؤدي إلى تقويض التفوق الأخلاقي لإسرائيل. ولأول مرة، يتضمن الخطاب العام في المجتمع الإسرائيلي الخوف من المرآة: مما يراه العالم الآن، وما يُجبر الإسرائيليون على مواجهته.
على الصعيد الدولي، كان التأثير أكثر زعزعة لمكانة إسرائيل الدبلوماسية. حلفاء إسرائيل التقليديون، الذين كانوا يومًا ما داعمين دون قيد أو شرط، يواجهون الآن ضغوطًا شعبية متزايدة من مواطنين لا يستهلكون البيانات الرسمية بل بثوث تيك توك وتغذيات إنستغرام البصرية.
خطاب أسطوري وتاريخي من البرلمان الأوروبي:
“أنا هنا لأعتذر للشعب الفلسطيني نيابة عن الاتحاد الأوروبي، أنا آسفة لأن الأمر تطلب موت آلاف الأطفال الجائعة ليفكر قادة الاتحاد بمراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، أنا آسفة لأن أوروبا ما تزال ترسل السلاح لإسرائيل لمحاربتكم”. pic.twitter.com/Xflsu8hWc8
— نحو الحرية (@hureyaksa) May 22, 2025
أزمة سياسية وملاحقة جنائية
ويشير الكاتب الصحفي إلى أن أعضاء برلمانات في أوروبا وأمريكا الشمالية باتوا يشككون علنًا في شحنات الأسلحة، وصفقات التجارة، والتغطية الدبلوماسية، ليس لأنهم اطلعوا على إحاطات حول جرائم الحرب الإسرائيلية، بل لأن صناديق بريدهم الإلكتروني تغصّ بلقطات لأشلاء الأطفال والجوعى، مضيفًا: “لقد امتد ميدان المعركة إلى البرلمانات، والجامعات، ومجالس المدن، وغرف التحرير. هذه هي ردة الفعل على حرب لا تستطيع إسرائيل كسبها بالقوة الغاشمة”.
وراء الأبواب المغلقة، لم تعد القيادة العسكرية الإسرائيلية قلقة فقط بشأن العلاقات العامة؛ بل أصبحت قلقة بشأن الملاحقات القضائية. لقد حذّرت قيادة الجيش الجنود من التقاط صور سيلفي وتصوير أنفسهم وهم يهدمون منازل الفلسطينيين، محذّرة من أن مثل هذه المواد تُجمع الآن كأدلة من قبل منظمات حقوق الإنسان الدولية.
وقد استخدم النشطاء بالفعل مقاطع الفيديو والصور من وسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف جنود إسرائيليين خارج البلاد. وفي عدد من الحالات، اضطر مواطنون إسرائيليون إلى الفرار من الدول التي كانوا يزورونها بسبب تقديم شكاوى ضدهم تتعلق بجرائم حرب.
جندي إسرائيلي في تصريحات لقناة سكاي نيوز: “كل قائد يختار بنفسه ما يفعله.. يمكن للبعض أن يقرروا ارتكاب جرائـ ـم حرب ويفعلوا ما شاؤوا، بلا عواقب كبيرة لذلك..” pic.twitter.com/HzgXykzfMI
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) July 9, 2025
مطارَدون دوليًّا
وبالتزامن مع استئناف الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة الجماعية في مارس/آذار الماضي، أطلق المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين مبادرة “غلوبال 195” لملاحقة الإسرائيليين المتورطين في جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
وقال مدير المركز طيب علي إن المركز عمل خلال أشهر الحرب على جمع الأدلة حول جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، مشيرًا إلى امتلاك “غلوبال 195” عددًا كبيرًا من الأدلة التي تم توثيقها وفقًا للمعايير الجنائية البريطانية.
وأضاف أن هذه الأدلة توفر صورة واضحة للغاية حول الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، مما دفع المركز إلى إطلاق المرحلة الثانية من المساءلة عبر “مبادرة غلوبال 195”.
وبمبادرة من المركز، أُطلق تحالف قانوني دولي تحت مظلة “غلوبال 195″، لضمان محاكمة على مستوى العالم للإسرائيليين ومزدوجي الجنسية المتورطين في جرائم الحرب بغزة؛ حيث يستند التحالف إلى إنشاء شبكة دولية للمساءلة تمتد عبر 4 قارات، وتستخدم الآليات القانونية الوطنية والدولية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب بغزة، وتسعى إلى استصدار أوامر اعتقال وبدء الإجراءات القضائية بحقهم.
وتستهدف المبادرة جنودا من جيش الاحتلال الإسرائيلي وكبار الضباط والمسؤولين السياسيين المتهمين بانتهاك القانون الدولي، وقد حظيت المبادرة بدعم محامين ومنظمات مجتمع مدني من بريطانيا وكندا وتركيا والنرويج وماليزيا والبوسنة والهرسك، مما يعزز جهودها في تحقيق المساءلة القانونية على المستوى العالمي.
ففي عصر الهواتف الذكية، الاحتلال لم يعد مرئيًا فقط، بل أصبح قابلًا للاتهام، بل ومطاردًا لدرجة أن وجّهت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي، تساؤلات إلى عدة دول أوروبية حول أسباب السماح لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية، بعبور أجوائها.
وشملت الاستفسارات الدول الثلاث إيطاليا وفرنسا واليونان، التي سمحت لنتنياهو بالمرور عبر أجوائها رغم الملاحقات القضائية الدولية الموجهة ضده.