غزة في ظلام دامس .. عندما تصبح الكهرباء وسيلة للإبادة الجماعية

غزة في ظلام دامس .. عندما تصبح الكهرباء وسيلة للإبادة الجماعية

المركز الفلسطيني للإعلام

تُخنق غزة بلا ضجيج، لا بفعل القنابل وحدها، بل عبر الحصار الإسرائيلي الخانق والانهيار البطيء للبنية التحتية، حيث يغدو التيار الكهربائي شريان حياة يُنتزع عمدًا من أجساد السكان. لم تعد المعاناة في القطاع محصورة في أرقام الضحايا وركام البيوت، بل تمددت لتشمل كل تفصيلة يومية تحوّلت إلى معركة للبقاء وسط العتمة والعطش واليأس.

في هذا السياق، يُحذر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من انهيار شامل يتهدد ما تبقى من المرافق الحيوية في القطاع، وعلى رأسها الرعاية الصحية، والمياه، وخدمات الصرف الصحي، نتيجة التدمير الإسرائيلي المنهجي للبنية التحتية، خاصة قطاع الكهرباء والطاقة، مع استمرار الحصار المحكم ومنع دخول الوقود واللوازم الأساسية.

يؤكد المركز في بيان له أن ما يحدث لا يمثل مجرد إخفاق إنساني، بل هو انعكاس لسياسة متعمدة تسعى إسرائيل من خلالها إلى تقويض مقومات الحياة الجماعية في غزة، وتجريد أكثر من مليوني إنسان من الحد الأدنى للبقاء، ضمن مخطط متكامل من الإخضاع والتجويع والتهجير، تُشكّل فيه الطاقة — أو غيابها — وسيلة قتل غير مباشرة، لكنها لا تقل فتكًا عن القصف.

منذ الأيام الأولى للعدوان، استخدمت سلطات الاحتلال سلاح “الحرمان من الطاقة” ضمن ترسانة العقاب الجماعي، بقطع كافة خطوط الكهرباء العشرة القادمة من إسرائيل، والتي كانت تغذي القطاع بنحو 120 ميغاواط، بالتوازي مع منع دخول السولار الصناعي اللازم لتشغيل محطة التوليد الوحيدة. النتيجة: انقطاع كامل للتيار الكهربائي وتحول قطاع غزة إلى بقعة من الظلام الشامل.

وعلى مدار 630 يوما من العدوان المتواصل، طالت الهجمات الإسرائيلية البنية التحتية الكهربائية على نحو متعمد، حيث تُقدّر شركة توزيع الكهرباء (GEDCO) أن أكثر من 90% من الشبكة الكهربائية دُمرت، بما يشمل 3,780 كيلومترًا من الكوابل، و2,105 محولًا، وتدمير جزئي أو كلي لأكثر من 70% من المباني التابعة للشركة، ومخازنها وورشها وآلياتها، بخسائر تجاوزت 450 مليون دولار.

وحتى حلول الطاقة المؤقتة لم تسلم من الهجمات. فعوضًا عن تمكين السكان من الوصول إلى بدائل مؤقتة عبر الطاقة الشمسية، استهدفت قوات الاحتلال ما لا يقل عن 1,695 لوحة شمسية مثبتة على أسطح المنازل والمرافق العامة، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء، في سياسة مدروسة تهدف إلى خنق غزة بالكامل وحرمانها من أي متنفس.

الانقطاع التام للكهرباء لم يكن معزولًا عن بقية نواحي الحياة. فقد أُجبرت المستشفيات على تقليص خدماتها إلى الحد الأدنى، ما عرّض أقسام العناية المركزة، وحضانات الأطفال، ووحدات غسيل الكلى، وغرف العمليات، إلى التوقف المتكرر، في ظل شحّ الوقود وتوقف المولدات.

كذلك انهارت البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، فتوقفت محطات التحلية، وتعطلت آبار المياه، وانخفضت حصة الفرد اليومية إلى ما بين 3 و12 لترًا، في مستوى متدنٍ جدًا عن الحد الأدنى المقبول عالميًا، والمقدر بـ100 لتر يوميًا، بحسب منظمة الصحة العالمية. كما أدت أعطال شبكة الصرف إلى تدفق المياه العادمة إلى الشوارع والمآوي المكتظة، وسط تحذيرات من تفشي أوبئة يصعب السيطرة عليها.

لا تقتصر الكارثة على الصحة والماء، بل تمتد إلى التعليم والاتصال. فمع انعدام الكهرباء، لم يتمكن مئات آلاف الطلبة من مواصلة تعليمهم حتى عن بعد، خاصة في ظل تدمير أو إغلاق غالبية المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء.

كما انهارت خدمات الاتصالات والإنترنت، ما عطّل إمكانيات التنسيق الإغاثي والتواصل الإنساني داخل وخارج القطاع.

ومع استمرار إغلاق المعابر ومنع إدخال الوقود منذ 2 مارس 2025، أعلنت بلديات محافظات غزة وخانيونس والمنطقة الوسطى توقفها الكامل عن تقديم الخدمات، وسط تراكم النفايات وتوقف محطات ضخ المياه، ما ينذر بانفجار صحي وبيئي وشيك في مناطق مكتظة بالسكان والنازحين.

يرى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن سياسة حرمان السكان من الكهرباء والطاقة تشكّل أحد أكثر وجوه العقاب الجماعي فظاعة، وهي ممارسة محظورة صراحة بموجب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة.

كما يشكّل استهداف البنية التحتية المدنية، بما فيها منشآت الكهرباء، خرقًا واضحًا للمادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحظر الهجمات التي تهدد بقاء السكان المدنيين.

ويؤكد المركز أن هذه الانتهاكات، في ظل انعدام الضرورة العسكرية، تُصنّف كجرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وتستوفي شروط جريمة الإبادة الجماعية، من خلال إخضاع المدنيين لظروف معيشية يُقصد منها إهلاكهم كليًا أو جزئيًا، وإلحاق أضرار بدنية ونفسية جسيمة.

أمام هذا المشهد الكارثي، تتوالى الدعوات الحقوقية للأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف إلى التحرك العاجل لوقف الجرائم الإسرائيلية، وفرض فتح المعابر، وضمان إعادة تشغيل خطوط الكهرباء وإدخال الوقود والمعدات اللازمة لإعادة تأهيل منظومة الطاقة في القطاع.

كما توجه مطالبات للدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بدعم جهود التحقيق الجارية في جرائم الحرب في غزة، والعمل على محاسبة قادة الاحتلال المسؤولين عن هذه الجرائم، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب التي شكلت مظلة لتكرار الانتهاكات لعقود.

ما يحدث في غزة ليس أزمة كهرباء، بل تجويع بالطاقة، وإعدام للحياة، ومشهد يتكرر كل يوم تحت مرأى ومسمع من العالم. غزة لا تحتاج فقط إلى إضاءة بيوتها، بل إلى عدالة تُعيد إليها الحق في الحياة الكريمة.