أهالي غزة يتخلصون من مدخراتهم الذهبية للهروب من حرب الجوع

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
في أحد أزقة غزة التي تقاوم الرمق الأخير، تجلس أم علاء أمام دكان صائغ، تمسك قرطًا ذهبيًا صامدًا منذ زواجها، ترفعه بنظرة وداع، ثم تسلمه للصائغ: “كان يُفترض أن يكون هذا القرط لابنتي يوم زفافها… لكنه بات وجبة على مائدة خاوية. حين يصبح الخبز حلمًا، يتقلص الذهب إلى مجرد وسيلة عبور نحو البقاء”.
في شوارع غزة المزدحم بالهائمين على وجوههم من مشرق الشمس إلى مغربها، يمضي الناس ساعات اليوم الثقيلة ما بين ركام المنازل المثقلة بغبار القصف، يبحثون في ثنايا جيوبهم الفارغة جيدًا قبل أن يضطروا لبيع ما ادخروا من المعدن الأصفر بثمن بخس لقاء الحصول على كيس طحين يسد خوار أمعاء أطفالهم لأيام.
شاهد على الانهيار
يراقب محمد أبو الحسن، وهو صائغ مخضرم، مشهد أم علاء وهي تنظر إلى الخاتم بعينين حزنين قبل أن تسلمه إياه، يقول: “منذ أشهر يتكرر مثل هذا المشهد بين يوم وآخر. لم أعتد عليه، فأنا أعلم بأهل غزة كيف ومتى يضطرون لبيع مدخراتهم من الذهب، لبناء بيت أو تعليم أبنائهم في الجامعات أو لعلاج لا يتوفر في غزة، كان ذلك قبل الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، فاليوم يبيعون الناس الذهب ليأكلوا!”.
ويضيف: “لم أرَ في حياتي مشهدًا كهذا. الناس يأتون ببقايا الذهب، بعضها يعود لأكثر من ستين عامًا. لا يساومون، بل يستعجلون البيع وكأنهم يسابقون الموت. أصبحنا نشهد على انهيار جماعي.”
يتنهد الصائغ الذي يملك متجراً في سوق الزاوية الأثري، ويكمل: “نحن أيضًا لم نعد نملك السيولة. الأوراق المالية ممزقة، التجار يرفضونها، والعملات تهترئ مثل نفوس الناس. عمولة تسييل الذهب تصل إلى 45%. لم يعد للذهب قيمة حقيقية أما وزنه، فبعض القطع حين تباع بالكاد تساوي وجبة أرز أو قليلًا من الدقيق.”
في زاوية أخرى من السوق، يروي فايز عواجة، رجل ستيني، قصته مع خاتم زواج والدته – موروث عائلي امتد لخمسين عامًا – باعه وهو ينظر إلى الطاولة الفارغة في بيته: “باعه قلبي لا يدي… أصبحنا نحكي الذكريات بدل أن نعيشها. لم يبقَ لنا شيء. حتى الحنين صار ترفًا لا نملكه”.
توزيع الموت لا المساعدات
ويمثل عواجة وأم علاء، نماذج من بين أعداد كبيرة من الفلسطينيات الذين قرروا بيع مصاغهم الذهبي من أجل توفير بعض الأموال في ظل غياب الدخل المادي وتعطل أكثر من 90% من العاملين باليومية، وعدم صرف الجهات الحكومية في غزة لدفعات مالية مقارنة مع ما كانت تصرفه منذ أشهر، وضعف المساعدات وقلتها التي تصل للفلسطينيين المحاصرين بالجوع والعطش في ظل الحرب.
ويواجه الفلسطينيون هذه الأيام حرب تجويع يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي بحقهم عبر الإدخال الشحيح للمساعدات عبر آلية آمنية، ما جعلها تتحول إلى مصائد للموت وساحة للقتل الجماعي في ظل محدودية وقت الحصول عليها مع تدفع أعداد كبيرة من المواطنين إلى نقاط التوزيع يومياً.
ومع فرص العمل بات الفلسطينيون يبحثون عن مدخراتهم المالية أو مصاغ زوجاتهم وبناتهم من الذهب لبيعه في الأسواق السوداء لتوفير مبالغ مالية تعمل على تلبية احتياجاتهم من المواد الغذائية التي تباع بأعلى من سعرها الحقيقي 20 ضعف، فالحصول على كيس طحين وزن 25 كجم يتطلب 800 شيقل بينما سعره في الوضع الطبيعي 40 شيكلًا.
وتصف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، منظومة المساعدات الأمنية الأمريكية بأنها “نموذج موت، لا حياة. حيث بات إطلاق النار على المواطنين المجوّعين قسريًا مشهدًا متكررًا، فكل شاحنة مساعدات تمر، تخلّف خلفها قتيلًا أو مفقودًا.
منذ 19 أيار/مايو، لم تدخل سوى 700 شاحنة، وهو ما كان يدخل في يومٍ واحد قبل الحرب، حيث أصبت المجاعة أصبحت واقعًا لا احتمالًا، وباتت غزة بلا مخزون من الحياة، ولا مساحات للأمل.
تباطؤ حاد
من جانب آخر، أكد نائب رئيس نقابة الصاغة وتجار المعادن الثمينة في غزة إياد بصل، أن تجار الذهب يعانون من تباطؤ حاد في حركة البيع والشراء، ما أدى إلى تراكم كميات كبيرة من المعدن الثمين لديهم، وسط أزمات اقتصادية خانقة بفعل الحرب الجارية على غزة.
وقال بصل في حديث لـ “العربي الجديد” إن قلة الطلب وأزمة السيولة في السوق أثرتا على حركة التجارة، إذ يُباع الذهب في غزة حالياً بأسعار أقل بكثير من السعر العالمي بفارق يتراوح بين 400 إلى 500 دولار لكل كيلوغرام.
وأضاف: “سعر غرام الذهب المحلي يبلغ حالياً 50 ديناراً أردنياً للشراء و53 ديناراً للبيع، رغم أن السعر المفترض أن يصل إلى 60 ديناراً، ما يعني خسارة تصل إلى 10 آلاف دينار لكل كيلوغرام يجري بيعه”.
وأوضح نائب رئيس نقابة الصاغة وتجار المعادن الثمينة في غزة أن معظم التجار يعتمدون على نظام الدفع النقدي في تعاملاتهم، مع وجود عدد محدود فقط يستخدمون الدفع الإلكتروني، “وفي ظل توقف كامل لحركة الذهب بين غزة والضفة الغربية، أدى ذلك إلى تكدس كميات كبيرة لدى التجار وأعاق الحركة التجارية على نحوٍ ملحوظ”.
وتجدر الإشارة إلى أن التحديات في سوق الذهب تأتي في وقت يواجه فيه قطاع غزة أوضاعاً اقتصادية صعبة، مع ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانخفاض القوة الشرائية، ما يضيف ضغوطاً إضافية على تجار الذهب الذين يعتمدون كثيراً على عمليات التداول والبيع لتحقيق أرباحهم.