إسرائيل والغرب: الأبعاد المخفية لتشكيل المجتمعات العربية

كنت أتوقع من أهل العلم في أمتنا، وقد قرأ كثير منهم الكتاب الشهير لجون ميرشايمر وستيفان والت، أو الذين سمعوا بنشاط شركات مثل (Bell Pottinger) في العراق وفيديوهات الذبح المزيفة التي أنتجتها لتحريض العراقيين بعضهم ضد بعض، وربما الذين سمعوا بتسريبات سنودن عن وحدة (JTRIG) البريطانية السرية وعن عملياتها من نوع “العلم الكاذب” (False Flag) وعن تدريسها لمنتسبيها كيفية استغلال نقاط ضعف المجتمعات لتفكيكها (في الصورة جزء من كورس تدريبي للوحدة سربها سنودن).
كنت أتوقع منهم أن يوضحوا للعوام، أن المذابح المروعة في تلك البلاد، بل وفي بلاد مثل السودان وليبيا.. يتحمل وزرها (غير القتلة أنفسهم.. بل على الأغلب قبلهم)، أيضاً أمريكا وبريطانيا، والأهم من كل ذلك.. إسرائيل.
المنطق والعدل، أن القاتل بيده ملام، ولكن يلام مثله أو أكثر منه، من خطط المقتلة واستدرج أطرافها ليذبح بعضهم بعضاً وهو يتفرج. إسرائيل التي كانت يقيناً وراء دفع أمريكا لاحتلال العراق وتدميره (حتى في كثير من كليات السياسة الغربية.. هذا ما يدرسونه)، ثم عندما استصعبت هذه الدول تشكيل العراق على هواها بسبب صعود المقاومة الإسلامية هناك، استعانت بشركات مثل (Bell Pottinger) لضرب جماعات السنة بعضهم ببعض ثم ضرب الشيعة بالسنة، وكل ذلك من خلال عمليات مخابراتية خبيثة سأضرب عليها أمثلة لاحقاً.
أما في سوريا، فهم قطعاً لم يخططوا للثورة فيها، وكانوا لفترة يتمنون نجاحها أملاً في صعود معارضة علمانية غربية الهوى، بل ودعموا ذلك ببرامج سرية مثل برنامج (Volute)، ولكن عندما تبين لهم أن سقوط الأسد معناه دولة يحكمها الإسلاميون، أو فوضى لجماعات مختلفة تصل بسلاحها إلى الحدود “المقدسة” لإسرائيل، وقرروا وقتها السماح لإيران وحزب الله دخول المعركة.
لا أريد أن أطيل فأذكر كل مراحل الحرب، ولكن في أغسطس/ آب 2013 حصل انقلاب يتذكره السوريون ويوقتونه بمجزرة الكيماوي في الغوطة، عندما امتنع أوباما (بضغط من اللوبي الإسرائيلي ومن الدولة العميقة في واشنطن.. أوباما نفسه يلمح لذلك في مذكراته)، امتنع عن ضرب الأسد، لأن تقديراتهم كانت أنه سيسقط بعدها مباشرة وسيستلم الحكم جماعات إسلامية. بعدها حصلت أمور منها التدخل الروسي وزيارة سليماني إلى موسكو، لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو دور إسرائيل في التنسيق لفكرة ضرب جماعات “المتشددين” السنة والشيعة بعضهم ببعض. إسرائيل نسقت مع روسيا بوتن ثم شجعت أمريكا على غض طرفها عن دخول روسيا، إيران، وحزب الله لدعم الأسد.
كل ذلك من باب “ضرب الظالمين بالظالمين” (هم ينفذون ذلك.. بعكس مناضلي الكيبورد الذين يستخدمون العبارة لتفسير كسل عقولهم وجهلهم): أمريكا، بريطانيا وإسرائيل بادروا وخططوا لكسر جماعات إسلامية سنية تعاديهم بجماعات شيعية تعاديهم، لينتجوا سوريا محطمة وضعيفة، ولكن مستقرة لصالحهم تحت حكم الأسد.
غير هذا المستوى الاستراتيجي.. على المستوى الأصغر، هذه الدول عملت منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 على خطة ضرب الراديكالية السنية بالراديكالية الشيعية.. حرضوا الطرفين ضد بعضهما، استدعوا مظالم التاريخ ووظفوا مئات الخبراء والعلماء، بل ووظفوا بعض الحكومات العربية من أجل ذلك.. تفاصيل ذلك مذهلة. حتى هذا اليوم، كثير مما تقرأونه وتسمعونه عن خبث وكفر الرافضة وكثير مما يقرأه الشيعة عن كره السنة لآل البيت ورغبتهم في قتلهم.. كثير من ذلك مصنوع مخابراتيًا في الغرب وفي تل أبيب. كثير من ذلك وليس كله، فخطتهم اكتسبت زخماً ذاتيا بعد فترة وأصبحت تتقدم ممتطيةً عقولنا المخدوعة وممتطيةً مظلومياتنا الحقيقية (سنة وشيعة) بعد أن فتك بعضنا ببعضٍ فعلاً.
***
قبل أن أذكر توضيحات وأدلة على ما قلته.. أريد التأكيد أنهم لم يكونوا لينجحوا لولا عيوبنا الخاصة، الطائفية الغبية والمجرمة موجودة حقيقةً. حتى اليوم أعجب من وقوع شخص بمثل ذكاء وثقافة وثورية حسن نصر الله في فخ الطائفية، لدرجة جعلته يصطف مع تافه جبان مثل بشار الأسد: دكتاتور ابن دكتاتور (وأيضاً علماني وعلى الأغلب ملحد)، ولكن للأسف غلبت عليه طائفيته ووقع في الفخ الذي رسمته له إسرائيل وأمريكا.
ومن طرفنا نحن السنة، في 2003 وقبل أن تبدأ الفتن في العراق، الزرقاوي أرسل صهره ياسين جرّاد ليفجّر نفسه بنحو 100 تقريباً من عوام الشيعة اثناء خروجهم من مرقد الإمام علي في النجف، وذلك من أجل اغتيال شخص واحد وهو محمد باقر الحكيم.
لا اتخذ الصهاينة والاستعمار شماعة، ولا أبرئ امتنا ولا أبرئ الشيعة وإيران من شيء كانوا قد فعلوه حقاً، ولكن من ركز في فعلهم وتناسى من أدار اللعبة بنا وبهم، فهو مسكين: لو لم تقنع إسرائيل أمريكا باحتلال العراق لما حصل بأهل السنة هناك ما حصل، ولولا خشية أمريكا من حكم إسلامي في سوريا لكان من المستحيل لها أن تسمح بتدخل إيران وحزب الله، ولولا الفتن المدارة من لندن واشنطن، وتل أبيب، لما بلغت أعداد الضحايا في البلدين ما بلغت.
تفاصيل وأدلة:
بيل بوتينغر.. التلاعب بالعقول
أثناء احتلال العراق، استأجر البنتاغون خدمات عدة شركات تلاعب بالعقول تعمل بين لندن وتل أبيب وأمريكا، إحداها شركة بيل بوتينغر (Bell Pottinger) بعقد قيمته 540 مليون دولار ، استأجروها للتلاعب بوعي وأفكار- وبالتالي تصرفات – العراقيين، ليقل رفضهم للاحتلال ولتتشتت المقاومة العراقية ولينشغلوا بالفتن والقتال بين بعضهم البعض.
ومما كشفه موظف مستقيل من الشركة اسمه مارتن ولز، أن وظيفته تضمنت العمل على فيديوهات مزيفة متقنة جداً أنتجتها شركته ووافق على كل فيديو فيها ديفيد باتريوس نفسه (الحاكم العسكري للعراق وقتها والذي أصبح لاحقا رئيسا لوكالة المخابرات الأمريكية (CIA)، الفيديوهات كانت تظهر مسلحين من جماعات مختلفة “يرتكبون الفظائع” بحق أناس من جماعات أو طائفة أخرى.
الوحدة الاستخباراتية البريطانية الخاصة
الوحدة الاستخباراتية البريطانية الخاصة (JTRIG) تأسست عام 2011، ومثلها الكتيبة ال77 التي تأسست عام 2015، يعملون بمهمة واضحة وهي اختراق المجتمعات المعادية والتلاعب بعقول أفرادها وتصرفاتهم. طبعا هذه الوحدات البريطانية تعمل بتنسيق كامل مع بقية أعضاء العيون الخمسة (أمريكا، كندا، أستراليا، ونيوزيلندا)، وأيضا بالطبع ويا للمفاجئة.. إسرائيل (مثبت تدريبات وزيارات بينهم وبين إسرائيل)!!.. ما يهمني هنا أن تسريبات “سنودن” الشهيرة عام 2014 تضمنت كشف وثائق داخلية حساسة لهذه الوحدة.
الوثائق تذكر بعض بلادنا بالاسم كأهم أهدافهم وتذكر الراديكاليين الإسلاميين كذلك بكثرة كهدف (نعم وتذكر إيران أيضا كهدف رئيسي للفتن والتلاعب، ولاستهدافها قسم منفرد كبير داخل الوحدة). الصورة المرفقة من بعض تلك الوثائق، والتكتيكات المذكورة هي تجسيد للخبث الاستخباراتي والسياسي الغربي والإسرائيلي..
ملاحظة: في وثائق أخرى مسربة لنفس الوحدة البريطانية، كلام يتفاخر بفاعلية عمليات الاسقاط الجنسي التي يقومون بها ضد خصومهم.. ربما اكتب لكم عن ذلك يوماً ما.
عمليات العلم الكاذب
تقرأوون في الوثيقة السرية المسربة هذا مصطلح (عمليات العلم الكاذب False Flag) كأحد أنواع العمليات التي يتدرب عليها أعضاء الوحدة، ومعنى هذا المصطلح في الراسات الأمنية والاستخباراتية هو أن تقوم الدولة بعمل ما، تفجير مثلاً، بحيث يظهر أن جماعة فلانية أو دولة أخرى قامت به، بينما هم في الحقيقة من وراءه.
استخبارات هذه الدول بلغت مرحلة مرعبة من الاتقان في هذه العمليات. لدرجة أنه يمكن اعتقال المنفذين، ويعترفون، ويعدمون، دون أن يكون هناك إثبات أن من جندهم كانت أمريكا أو إسرائيل.. لأن المنفذين أنفسهم لا يعلمون! كثير من العمليات مسجلة في التاريخ أن من قام بها جهة ما.. بينما الحقيقة أن فعلها آخرون.
بل أنهم أحيانا يجندون مسؤولاً حكومياً في دولة، أو مسؤولاً في الجيش، ويقولون له نحن إخوانك في جهاز مخابرات بلدك ونريدك في مهمات سرية، فيوافق وينفذ أوامرهم دون أن يدري إلا بعد فوات الأوان، وأحياناً بعدما يصبح من الصعب عليه التخلص من براثنهم خوف الفضيحة.
دور إسرائيل في تدمير العراق، سوريا، ليبيا، والسودان
قبل عشرين عاماً لم تكن هناك أدلة واضحة على هذه الفكرة، أقصد في السنوات الأولى بعد احتلال العراق، كسر الحاجز عام 2006 اثنان من أهم علماء السياسة الدولية في أمريكا والعالم، جون ميرشايمر وستيفان والت في كتابهما الشهير عن اللوبي الإسرائيلي وسيطرته على السياسة الخارجية لأمريكا. ومنذ ذلك اليوم تنتشر الأدلة على هذه الأمور، عن خطة إسرائيل لتدمير دول عربية وإسلامية تراها إسرائيل تشكل خطراً عليها ، خطة كان من أوائل مبتدعيها نتنياهو نفسه.. في شبابه.. في التسعينات!
فهم دور إسرائيل هذا أصبح هو الغالب في اليمين واليسار الأكاديمي (ولذلك يشن اللوبي حربا على الجامعات الراقية مستخدما المعتوه ترامب)، قبل أيام سمعتها أيضا من جفري ساكس الأستاذ في كولومبيا حالياً وقبلها في هارفارد والذي عمل مستشاراً للأمين العام للأمم المتحدة لمدة 17 عاماً. ساكس، وهو باحث في أعلى درجات الرصانة وله علاقات قوية في أروقة الحكم في واشنطن، يؤكد دائما -وبذكر بعض الأسماء والأدلة- أن تدمير العراق سوريا وليبيا والسودان حصل بتخطيط من اللوبي الصهيوني في واشنطن، وبدور رئيسي من نتنياهو على الأخص.