فرض الجهل المعقد

فرض الجهل المعقد

من الثوابت العلميَّة أنَّ الجهل يُعدُّ أهم وأبرز الآفات المسبِّبة لتخلُّف المجتمعات الإنسانيَّة ثقافيًّا وحضاريًّا؛ لذا نجد الدول المتقدِّمة تبدأ في رحلة حضارتها بالتعليم، فتعطيه جُلَّ اهتمامها كونه -أي التعليم- يُعدُّ القاعدة المتينة التي تنتج مجتمعًا سليمًا قادرًا على سبر أغوار الكون، واكتشاف أسراره في مختلف المناحي الحياتيَّة، وهذا طبعًا لا نلمسه في بعض مجتمعاتنا العربيَّة؛ لما بينها وبين تلك الدول من بون شاسع، فتلك المجتمعات العربيَّة تقبع في ظل هذا الجمود الفكريِّ الذي حوَّلها إلى مجتمعات مستهلِكة ضامرة الفكر والإبداع، وبتمعُّن واقع الحال لهذه المجتمعات، في خضم ذلك العالم المتسارع في تقدُّمه المنتج، بينما نجد أنَّ حالة الجهل الممتدَّة لم تفارقهم، وإنْ بدا لنا بعض التقدُّم الوهمي القائم على إنتاج الغير من كساء ودواء وغذاء.

ولو عدنا قليلا إلى المجتمعات العربية قبل الإسلام، لوجدنا كيف كانت تعيش حالة البداوة، حيث تعيش على التنقل، وطلب الماء والمرعى، بينما المجتمعات القروية منها كانت منشغلة بالصراعات القبلية، والغزو على الغير. ولعل معلقة عمرو بن كلثوم في العصر الجاهلي وصفت بدقة واقع الحال الذي كانوا عليه، والتي اخترت منها هذا البيت:

أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحدٌ عَلَينَا

فَنَجْهَل فَوقَ جَهلِ الجَاهِلِينَا

‏فهي تصف وصفًا دقيقًا لمعنى الجهل المركَّب الذي عنونت به هذه المقالة.

واستمرَّ ذلك الحال المُخزي، حتَّى بعث الله تعالى إليهم رسولًا من أنفسهم؛ ليخرجَهُم من ظلماتِ الجهلِ إلى نُورِ العِلمِ وإعمارِ الأرضِ، فبدأت الحياة تدبُّ في عقولهم، انطلاقًا من تعليمات الكتاب المُنزَّل إليهم، فحدثت الانتفاضة الفكريَّة، التي أجَّجتها مضامين كتاب الله المرسل إليهم، لكنَّهم -وللأسف الشديد- بعد وفاة الرسول -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- عادوا إلى ما كانوا عليه، وغيَّروا الكثيرَ من القيم التي حثَّهم على التمسُّك بها كتابه الكريم، وتمثَّل بها نبيُّهم ورسولُهم خاتم الأنبياء والمرسلين -عليه أزكَى الصَّلاة وأتم التَّسليم- وهنا استغلَّ ذلك بعض الحاقدين من اليهود والفرس، ثم الدول الأوروبيَّة الحديثة، حين عبثوا بمضامين الدِّين، وفرَّقوا شملَهم، حيث خرجوا به إلى آفاق بعيدة عن الدِّين، تخدم فقط رغباتهم، وشهواتهم، وأطماعهم، فتوالت الأعوام والقرون، وتمكَّنت حالة الجهل، فنمت في مسارب البعض، حتَّى أصبح جهلهم مقدَّسًا، ومَن يقف خلفه مقدَّسون، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تمادوا في ذلك، حتَّى فرضوا ذلك الجهل على أجيالهم المستقبليَّة، واتَّخذوا منابرهم الإعلاميَّة والتعليميَّة أدوات تعزيز لذلك الجهل، الذي أصبح جهلًا مركَّبًا؛ كونهم يجهلون ما يفعلونه من جهل، باعتقادهم أنَّه السبيل الوحيد لنموِّهم وتنميتهم، التي أصبحت كالسَّراب نراها في خُطبهم ووسائلهم، لكن لا نلمسها في نموِّهم الفكريِّ ومنتجهم الحضاريِّ؛ ليلحق الخلفُ بالسلفِ من الأمم، وعلى ما يبدو أنَّ الحال أصبح ميئوسًا منه، فمن شبَّ على شيءٍ شابَ عليهِ.. والله من وراء القصد.