نادي الجماهير!

في كل دولة، هناك فريق كرة قدم متفرّد في شخصيته، عابرٌ للحسابات في جماهيريته، فريق لا تُقاس قيمته بعدد البطولات، ولا تُختزل مكانته في قيمة صفقاته الموسمية، بل تكمن عظمته في قدرته على التغلغل في قلوب الناس، خاصة الطبقات الشعبية، التي تكاد تجمع عليه وتلتف حوله كأنه جزء من تفاصيل يومها؛ من فرحها، من همّها.. في الأرجنتين هو (ريفر بليت)، في البرازيل (فلامينغو)، في مصر (الأهلي)، أما في بلادنا، فلا جدال على أنه (الاتحاد).
(الاتحاد)، الذي تأسَّس قبل مئة عام، لم يولد في صالات فخمة، ولم ينشأ على يد رجال أعمال، بل خرج من عمق الحارات البسيطة، من عبق الموانئ والأسواق، من صوت الباعة وروح العمال، ومنها اكتسب تلك الروح الشعبية الفاتنة التي ما انفكّت تلازمه حتى اليوم، وذلك القرب اللافت من الناس بمختلف شرائحهم، بدءًا بالبسطاء الذين يشبههم ويشبهونه، وحتى أعلى الطبقات التي وجدت فيه صدقاً لا يُشترى بالمال.. وعلى مدى قرنٍ كامل، بقي الاتحاد هو العميد، لا لأنه الأول تأسيساً فقط، بل ولأنه أيضاً لا يتصنّع، ولا يتجمّل، و لا يركض خلف الإثارة والأضواء، بل هو من يصنعها.
لقد أصبح هذا الشيخ الغارق في الأمجاد والعراقة، مصدرًا لفرح كل عشاقه ومريديه؛ أولئك الذين يجدون في انتصاراته وانكساراته مساحة للحلم، ونافذة على الفرح، فحين ينتصر هذا الكبير سِنًا ومقامًا، تضج المدن بالهتاف، وتتلألأ العيون بالفرح، وحين يخسر، يربتون على كتفه كما يفعل الأبناء الأبرار مع آبائهم العائدين من معركة خاسرة، فيشكرونه لأنهم متأكدون أنه قاتل بشرف.
هذا لا يحدث في جدة وحدها، فشعبية الاتحاد تمتد إلى معظم مدن الوطن حتى سُمي بنادي (الوطن)، بل إنها تجاوزت إلى (الوطن) العربي بأكمله، ففي اليمن يُشجَّع كما لو كان فريقًا محليًا، وكذلك الحال في عُمان والأردن، أما في مصر فله عشاق يتابعونه كما يتابعون أنديتهم الكبرى، وفي البحرين والكويت هو ضيف دائم على القلوب، وحتى في دول المغرب العربي التي غالبًا ما تميل إلى فرق أوروبا، تجد من يعرف الاتحاد ويحبه، ولا تعرف تحديدًا ما سرّ هذه الجماهيرية الطاغية، هل هو الصدق الذي يسكن أدائه؟ أم البساطة التي تُشبه الشارع العربي؟ أم عبق الأرض الذي يحمله أينما توجَّه؟ أم هي الروح الأصيلة التي لا تُصنّع؟ أم البطولات التي لا تغيب عن خزائنه؟ ربما هي كل ذلك، لكن الأكيد أن الاتحاد لا يُعشق لأنه يُروّج لنفسه، بل لأنه يُشبه من يحبونه.
الاتحاد – أيها السادة- فريق لا يصنع المجد فقط، بل يصنع الحكاية التي تتناقلها الأجيال كاملة.. هو نادي كل الشعب، وعشّاقه هم سره الأكبر ومصدر إبهاره الأعظم، يحضرون مبارياته بكثافة لا يجاريهم فيها أحد، ويساندونه بأهازيج لا يشبههم فيها أحد، ويلاحقونه بنشاط يغبطهم عليها كل أحد، حتى أصبحت له الغلبة جماهيرياً في معظم ملاعب الوطن.
بعض الكيانات لا تُقاس بالعمر، بل بتأثيرها في الوجدان.. والاتحاد واحد من تلك الكيانات التي تسكن الناس كما تسكنهم اللغة والحنين.. إنه ليس مجرّد فريق كرة قدم، بل قصيدة طويلة تُكتب كل أسبوع على العشب، ويُكملها الجمهور الفاتن من المدرجات، وتظلّ تنمو في ذاكرة وطن لا يملّ من الحكايات الصادقة.. ومثل كل الحكايات التي تبدأ بصدق، لن تنتهي قصة الاتحاد، بل ستظل تُروى إلى الأبد.