شجرات

علاقتنا بالأشجار علاقة جميلة، وتتميَّز بالعديد من الأبعاد المثمرة، ولكن هناك بعض منها يحتوي على بعض الجوانب «الداكنة» العجيبة، وإليكم بعض الأمثلة: استُخدمت الأشجار خلال الحروب كمنصَّات مراقبة وتجسس، وتُوِّجت تلك الاستخدامات خلال الحرب العالميَّة الأولى، عندما تم تصميم وتجهيز مجموعات من الأشجار الصناعيَّة المجوفة للاستعمالات العسكريَّة، واستخدمت فيها أفضل الممارسات الفنيَّة، والتصنيع، وكانت من أوَّل التطبيقات التاريخيَّة لعلم «التمويه» Camouflage.. ومن العلاقات الغريبة أيضًا بين البشر والشجر خلال الحروب، نجد حالة أشجار المطاط في فيتنام خلال الستينيَّات. فكانت أعداد كبيرة منها مملوكة تاريخيًّا لشركة صناعة الإطارات الفرنسيَّة «ميشلان».. وخلال الحرب الأمريكيَّة الفيتناميَّة، احتجَّت «ميشلان» بقوَّة على تدمير أشجارها ضمن الغارات الأمريكيَّة على الأراضي الفيتناميَّة، وطالبت ونجحت في إرغام الولايات المتحدة على دفع تعويضات كبيرة لدمار كل شجرة، وتسبَّب ذلك في أزمة؛ لأنَّ بعض المناطق المأهولة بأشجار الشركة الفرنسيَّة أصبحت خارجة عن مناطق العمليات العسكريَّة الأمريكيَّة؛ نظرًا لتكلفتها. ومن قصص الشجر العسكريَّة العجيبة أتذكَّر بوضوح قصة شجرة واحدة أدَّت إلى صراعات عسكريَّة دوليَّة مذهلة.
في عام 1976 قام ضابطان أمريكيَّان في المنطقة المحايدة بين كوريا الجنوبيَّة والشماليَّة بقص شجرة؛ لأنَّها كانت تحجب الرُّؤية بين منصَّات المراقبة بين البلدين.. وجاءت ردة فعل عنيفة ومباشرة من مجموعة من جنود كوريا الشماليَّة، فهجموا عليهما بالسواطير، والفؤوس وقتلوهما، وكان رد أمريكا هائلًا.. حيث أرسلت قاذفات قنابل ثقيلة، ومقاتلات، وطائرات هيلوكوبتر، وقوات مشاة، ومدرعات في عمليَّة عسكريَّة ضخمة، وتم قص الشجرة كرسالة رد اعتبار عسكريَّة ضد كوريا الشماليَّة.. شجرة واحدة كادت أنْ تشعل حربًا بين ثلاث دول.
وبصراحة، كل ما جاء أعلاه كان تسخينًا لموضوعنا، فهناك قصة مذهلة، والله أعلم بدقَّة تفاصيلها؛ لأنَّها متداولة في تاريخ «الدبابيس» من عدة جوانب. عندما قام الجاسوس الإسرائيلي «إيلي شاؤول كوهين» الشهير بالاسم الحركي «كامل أمين ثابت».. وفضلًا تأمَّل جمال الاسم الذي يعكس الثقة.. كامل.. وأمين.. وثابت..عندما قام باختراق صفوف القيادات السوريَّة العسكريَّة في منتصف الستينيَّات الميلاديَّة، متنكِّرًا بشخصيَّة أحد أبناء الوطن السوريِّ الشقيق، قدَّم هدية للجيش لحماية الجنود من أشعَّة الشمس في مواقع هضبة الجولان.. استورد آلاف أشجار «الكينا» المعروفة باسم «اليوكاليبتوس»، وقدَّمها لمندوب الجيش..»يعني يعني» كأحد أوجه الدعم لأفراد الجيش على الجبهة، وبالذات في مرتفعات الجولان.. وبعد مرور سنتين من تلك الهدية الخبيثة، عندما قامت حرب 1967، أصبحت تلك الأشجار نقاط تصويب للمقاتلات والمدفعيَّة الإسرائيليَّة، فكانت أشجار «الكينا» مؤشِّرات تحديد لمواقع الجنود السوريِّين البواسل خلال العمليَّات العسكريَّة. تم استخدام الأشجار كأداة غدر في الحرب.. وهناك ما هو أخطر من ذلك.. ففي فلسطين الشقيقة، نجد سياسة تشجير خبيثة، تهدف إلى طمس الهويَّة الفلسطينيَّة.. يقوم «الصندوق القومي اليهودي»، بصفته كيانًا «بيئيًّا» دوليًّا غير ربحيٍّ؛ بنشاط زرع الأشجار في الأراضي الفلسطينيَّة.. ومنذ إنشائه عام 1901 يدَّعي أنَّه قام بزرع أكثر من ربع مليار شجرة في فلسطين.. والهدف من ذلك، والنشاط الأساس، ليس زراعة الأشجار، بل هو الاستيطان، والتخلُّص من أصحاب الأرض «الفلسطينيِّين»، وزرع الصورة أنَّ الكيان جعل الأرض خضراء.. وقد أصبحت مع مرور الزمن إحدى الآليَّات الأساسيَّة لتنفيذ محاولات التطهير العرقيِّ في فلسطين. وحتى الأشجار التي يزرعها هذا «الصندوق» مستوردة، وفي العديد من الحالات لا تتناسب مع البيئة المحليَّة العربيَّة.
* أمنيــــــة:
سأنتهي من حيث بدأت.. علاقة الإنسان بنعمة الأشجار جميلة، ولكنَّ البعض يصرُّ على استخدامها استخدامات داكنة؛ لتصبح إحدى أدوات الحرب، والقمع، والغدر، والاحتلال. أتمنَّى أنْ يهبنا الله الحكمة لفهم وإصلاح تلك العلاقات، فهي من دلالات مفهوم الحضارة، وهو من وراء القصد.