خطر التكنولوجيا عندما تتبنى صفات البشر

خطر التكنولوجيا عندما تتبنى صفات البشر

في زمنٍ لم يعد فيه التزييف حكرًا على الأقلام المرتعشة، ظهرت مقاطع مصوَّرة لرجل طاعن في الحكمة، تُنسب إليه كلمات لم يقلها، وتُركَّب على وجهه انفعالات لم يعرفها قلبه قط. بدا كأنَّ روحه قد خُدعت في قالبها، وكأنَّ صوته استُؤجر لينطق بضميرٍ غائب لم يُستأذن. لم يكن ذلك إلَّا مشهدًا من مشاهد الذكاء الصناعيِّ حين ينفلت من عقال الأخلاق، ويفتري على الأبرياء بما لم يقولوه. لقد أصبح الكذب يُنسَج ببرمجيَّاتٍ لا تفرِّق بين تُهمة واعتراف، ولا بين رأيٍ وفِريةٍ. يُنتزع الإنسان من صدقه، ويُغرس في فمه ما لم يقله، حتى يغدو خائنًا لتاريخه، منبوذًا بجريرة الزَّيف. ألسنا نشهد انقلاب المعرفة إلى وسيلة لتزييف الواقع؟ لقد خُلق هذا الذكاء في مختبرات الإنسان، لكنَّه نشأ بلا قلب، والعقل وحده لا يكفي، فما الضمير اختراع بشريٌّ، بل هبةٌ سماويَّة لا تُبرمج.

يا من تُعلِّقون آمالكم على الآلة: إنْ لم نغرس فيها قيمنا، ستُفرغنا من قِيَمِنا. ويا مَن يُدهشكم بريق التقنية، تذكَّروا أنَّها لا تملك وجدانًا، ولا تعرف خشيةَ السؤال يوم يُقال: “ماذا قلت؟ ولمن؟ ولماذا؟”. لقد دخلنا عصرًا تتعرَّى فيه الحقيقة، وتُلبَس وجوهًا مستعارة، تُقدَّم للنَّاس في قوالب برَّاقة تُغريهم بقبول الزَّيف باسم “الابتكار”. لكن السؤال الصادق: هل نملك الشجاعة لنُميِّز بين تقدُّمٍ يُنقذ البشريَّة، وآخرَ يُعرِّيها من إنسانيتها؟ إنَّنا على مفترق طريق: إمَّا أنْ نجعل من الذكاء الصناعيِّ امتدادًا لأخلاقنا، أو نتحوَّل نحن إلى امتداد لبرمجيَّات لا تعي معنى الظلم، ولا تشعر بالنَّدم، ولا تخجل من الباطل. آلةٌ تصنع الصور، وتُولِّد الأصوات، وتُركِّب الجمل، لكنَّها لا تذرف دمعة، ولا يخفق لها قلب، ولا تستحيي من الكذب. فما أكثر ما تُتقن الاصطناع، وتُبهر في التزييف، لكنَّها عاجزة عن إدراك مرارة الخزي، أو ألم المظلوم، أو فداحة البهتان. تُهدر الكرامة اليوم بنقرة زر، وتُشوَّه الذمم بصوتٍ مُصطنع، ويُسلب الإنسان من وجهه وتاريخه دون أنْ يُسأل الظالم: “هل يحلُّ لك هذا؟ هل يرضي الله؟”. الأخلاق ليست ترفًا في ساحة التقنية، بل روحها وضمان معناها الإنساني. فإن عمل الذكاء الصناعي بغير ضمير، فقد فتحنا بابًا لفرعون جديد، لا في صورة طاغية، بل في نظامٍ لا يُحاسَب، وفي شيفرةٍ لا تخجل، وفي آلةٍ لا تعرف ما يعني أن يُظلم إنسان.

إنَّ الخطر ليس في قدرة الذكاء الصناعي على التقليد، بل في عجزه عن الندم. والندم هو جوهر الأخلاق، وعنوان الإنسان. فلتكن تقنياتنا خادمةً للضمير، لا سيدةً عليه، ولتكن الأخلاق مرجعًا لكل ما نبتكره، لا عائقًا نُقصيه عن درب التقدُّم. وإلَّا… فاستعد أيُّها الإنسان لأنْ ترى نفسك يُعاد تشكيلك لا كما أنت، بل كما يُراد لك أنْ تبدو. وحينها، لن تنفعك صرخة: “هذا لستُ أنا!”، فالصورة ستنطق، والصوت سيشهد… لكن الحق سيبقى أخرسَ ما لم نُحرِّره نحن.

يا معلِّمي القيم، ويا حملة الرسالات، ومربِّي النفوس قبل العقول: علِّموا أبناءَكم أنَّ التقنية لا تُغني عن الضمير، وأنَّ الذكاء لا يعوِّض النزاهة، وأنَّ الأمانة لا تسقط إنْ تخفَّت خلف شاشة. قولوا لهم: يا بُنيَّ، لستَ مجرَّد مستخدمٍ للآلة، بل وصيٌّ على أخلاقك في زمن يُجيد التَّزوير. كلُّ ما تنشره، وتصنعه، وتُركِّبه، هو شهادة بينك وبين الله… فاختر أنْ تكون شاهدَ صدقٍ، لا صانعَ زيفٍ. فالمستقبل لا يُبنى بالذكاء وحده، بل بمن يُحسن استخدامه، ويخاف ربَّه حين يُبرمج، ويستحيي من ضميره قبل أنْ يضغط على “إرسال”.