عندما تُخمد السعودية النزاعات من خلال تنمية مستدامة

السعوديَّة غير.. هكذا كانت دائمًا! وهكذا يَظهر صدق المقولة مرَّةً أُخْرى، حين يخص الأمر علاقتها بسوريا الجديدة.
ليس هناك أيُّ شيءٍ عادي ومألوف في السياسة السعوديَّة، وحين يريد هذا البلد العربي الرَّائد أنْ يتَّخذ موقفًا حسَّاسًا، فإنَّه لا يُصرِّح كثيرًا.. ولا يتكلَّم كثيرًا.. وإنَّما ثمَّة مستوى من التفكير السياسي الذي يقتنص اللحظة المناسبة لإرسال أقوى رسالةٍ للمعنيِّين؛ بأقوى إخراجٍ ممكنٍ.. وهذا بالتحديد ما حصل فيما يتعلَّق بعقد منتدى الاستثمار السعوديِّ السوريِّ في قلب دمشق.. وفي قلب العاصفة التي كان يأمل البعض أنْ تكون بداية سلسلةٍ من الأعاصير.
ففي لحظةٍ مفصليَّة من تاريخ سوريا، جاء انعقاد منتدى الاستثمار السعوديِّ السوريِّ كرسالةٍ مزدوجةٍ: اقتصاديَّة وسياسيَّة في آنٍ واحدٍ. فالحدث لا يقتصر على كونه مبادرةً لدعم مسار التعافي، وإنما يُمثِّل إعلانًا عمليًّا بأنَّ المملكة تتحرَّك بثبات؛ لإعادة تموضع سوريا في سياق إقليمي مستقر، خصوصًا بعد رفع العقوبات الأمريكيَّة عن دمشق بجهود ودعم مباشر من ولي العهد السعوديِّ الأمير محمد بن سلمان. أمَّا سياسيًّا، فهذا يعكس قدرة الرياض على لعب دور الوسيط القادر على موازنة مواقف واشنطن مع احتياجات دمشق، وتوظيف هذه اللحظة الإستراتيجيَّة لتثبيت مسار إعادة البناء، ومنع القوى المناوئة لسوريا من عزلها مجدَّدًا.
إنَّ المنتدى لم يكن مجرَّد اجتماع اقتصاديٍّ بروتوكوليٍّ، وإنَّما إشارة واضحة بأنَّ المملكة تريد لسوريا أنْ تنتقل من مرحلة البقاء إلى مرحلة الازدهار، عبر نهج يوازن بين إعادة الإعمار، وتمكين القطاع الخاص، وتعزيز الفرص الاقتصاديَّة بما يتجاوز حدود الاقتصاد إلى دعم استقرار الداخل السوريِّ. وهنا تتَّضح أحد ثوابت السياسة السعوديَّة الإستراتيجيَّة: الاقتصاد أداةٌ لإطفاء الحرائق الداخليَّة، وإعادة بناء العلاقة بين الدولة السوريَّة ومجتمعها على قاعدة المصالح المشتركة، بدلًا من اعتماد الأسلوب الأمني وحده، الذي شكَّل جوهر العلاقة سابقًا.
فبتوجيه مباشر من ولي العهد، جاء المنتدى ليؤكِّد أنَّ الاستثمار بالنسبة للمملكة ليس غاية ماليَّة بحتة، وإنِّما هو وسيلة لإنتاج الاستقرار، وتحويل مسار العلاقات الإقليميَّة نحو التعاون، بدل التصادم. وفي ظل تصاعد الضغوط على سوريا، فإنَّ مثل هذه المبادرات تُعيد رسم توازن القوى في المنطقة، لتصبح التنمية، وليس الفوضى، هي المحرك الأساس للتفاعلات السياسيَّة. وسياسيًّا، هذا يضع الرياض كضامن للاستقرار في سوريا، ويقلِّل من فرص القوى الإقليميَّة الأُخْرى لاستغلال أيِّ فراغ لصالح أجنداتها.
أمَّا الاستثمارات المُعلنة التي بلغت قيمتها نحو (24) مليارَ ريالٍ سعوديٍّ، فهي تتجاوز كونها أرقامًا ماليَّة. إنَّها تصويت سعودي مباشر على الثقة بقدرة الاقتصاد السوريِّ على التعافي والانطلاق، ورسالة سياسيَّة بأنَّ دمشق ليست معزولة، وإنَّما هي مشمولة برعايةٍ إقليميَّةٍ مؤثِّرةٍ قادرةٍ على حمايتها اقتصاديًّا وسياسيًّا. وهذه الاستثمارات تمثِّل بداية منظومة اقتصاديَّة عربيَّة داخل سوريا، ما يعني تحصينها من أيِّ ابتزاز خارجيٍّ يهدف لإبقائها رهينةً للمساعدات أو النفوذ الأجنبيِّ.
لقد توزَّعت هذه الاستثمارات على قطاعات إستراتيجيَّة، مثل العقار، والبنية التحتيَّة، والاتِّصالات، والطيران، والصناعة، والسياحة، والطاقة، والتجارة، والصحة، وتنمية الموارد البشريَّة، والقطاع المالي. وهذا التنوُّع يُشيرُ، سياسيًّا، إلى تحضير مشروع متكامل لإعادة هيكلة الاقتصاد السوريِّ، وتحويله إلى اقتصاد إنتاجيٍّ متَّصل بمحيطه العربي، بدلًا من بقائه اقتصادًا هشًّا يعتمد على شبكات نفوذ محدودة أو مساعدات طارئة.
إنَّ انعقاد المنتدى وتوقيع (47) اتفاقيَّة ومذكرة تفاهم يُشكِّلان خارطة طريق عمليَّة، تتجاوز الشعارات السياسيَّة التقليديَّة، نحو بناء شراكة اقتصاديَّة حقيقيَّة. فعلى الصعيد السياسيِّ، تمنح هذه الاتفاقيات الدولة السوريَّة الجديدة غطاءً قويًّا أمام محاولات الضغط، أو الابتزاز الخارجيِّ، وتوفر لها أدوات لإعادة صياغة علاقتها بمواطنيها، عبر توفير فرص العمل والتنمية، بدلًا من بقاء الدولة في موقع الدفاع المستمر عن شرعيتها.
وفي النهاية، فإنَّ هذا الحضور السعودي القوي ليس استقواءً بالخارج، كما قد يراه أصحاب القراءة السطحيَّة، وإنَّما هو إدراك لحقيقة السياسة الواقعيَّة في عالم اليوم: أي دولة خارجة من حرب مدمَّرة لا تستطيع أنْ تعزل نفسها عن شبكة المصالح الإقليميَّة والدوليَّة، وإنَّما يجب أنْ تُوظف هذه المصالح كرافعة؛ لإعادة بناء مؤسساتها وحماية قرارها الوطني. «فالسعودية، بحكم وزنها الاقتصاديِّ والسياسيِّ، تُمثِّل شريكًا عربيًّا إستراتيجيًّا، ليس لأنَّها مهتمة بمصير سوريا الداخلي والاقتصادي فحسب، بل لأنَّها مُصَّرةٌ، فوق ذلك، على أن تُوفِّر لسوريا مظلة استراتيجية؛ تمنع أي طرف خارجي من محاولة تحويلها إلى ساحة صراع جديدة، بأي طريقةٍ كانت، وبأي شكلٍ من الأشكال. والرسالة التي عمل وزير الاستثمار السعودي وأعضاء الوفد في دمشق على إيصالها للجميع بتصريحاتهم الحاسمة، أن هذا قرارٌ سعوديٌّ قاطعٌ ومُبرَمٌ ونهائي».