بين التعمق في التكنولوجيا وتنظيمها

في خضم هذا التيار العاتي من التوجُّه العالمي نحو التقنية بشكل عام، والذكاء الاصطناعي بشكل خاص، ليس هناك عاقل يمكن أنْ يقف ضد هذا التيار والتوجُّه، ودولتنا -حماها الله- إذا ذُكر السباق في التقنية، تأتي في مقدِّمة الدول التي تُعنى بتوظف التقنية -تقريبًا- في جميع قطاعاتها، وتحرص أنْ تأتي في المقدِّمة في جميع المجالات، ومن أهمها التقدُّم في المجال التقني، وخصوصًا في مجال الذكاء الاصطناعيِّ، وقد نجحت الكثير من الوزارات في توظيف التقنية، والاستفادة منها، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر وزارة الحجِّ والعُمرة، ووزارة العدل، ووزارة الصحَّة، ووزارة الداخليَّة، ومن ضمنها بكل تأكيد وزارة التعليم، وقد نجحت هذه الوزارات وغيرها من الوزارات الأُخْرى، وحتَّى المؤسَّسات والشركات في توظيف هذه التقنية والاستفادة منها في برامجها ومعاملاتها، وكثير من العمليات التي ساعدتها على اختصار الوقت والجهد، ودقة وجودة الإنتاج، فعلى سبيل المثال، ساعدت في إنجاح إدارة الحشود في الحجِّ، وسرعة ودقة العمليَّات الجراحيَّة، وإجراء العمليَّات الحسابيَّة، والمعاملات التجاريَّة بسرعة ودقَّة متناهية، واستطاعت أنْ تختصر الكثير من العمليَّات المعقَّدة في عدة مجالات، وربما ظهر دورها البارز -في أزمة كورونا- واضحًا، والتي استطاعت -بفضل الله تعالى- مملكتنا الحبيبة من تجاوز هذه الأزمة بأقلِّ الخسائر، واستطاعت أنْ تسفيد من توظيف التقنية في إدارة هذه الأزمة، بحيث تصبح معظم التعاملات إلكترونيَّة، وعن بُعد، ولعلَّ هذا ساعد في كسر الحواجز بين كثير من العاملين في مختلف القطاعات والتقنية.
ولا شكَّ أنَّ وزارة التعليم لم تكن بمنأى عن هذا المشهد، حيث فعَّلت منصَّات التعليم عن بُعد، والكثير من البرامج، وهذا ممَّا زاد من اهتمام الوزارة بإضافة بعض المواد التي تُعنى بتعليم وتطوير الطلاب في جميع المراحل، في كيفيَّة التعامل مع التقنية ومستجدَّاتها، ولا أدلَّ على ذلك من إدراج مادة عن الذكاء الاصطناعيِّ في جميع المراحل، وافتتاح مدرسة للموهوبين في التقنية في خمس إدارات تعليميَّة، غير البرامج والمسابقات التي تتبنَّاها أكاديميَّة طويق، وهذا شجَّع الكثير من الجامعات لتقديم برامج ودورات تدريبيَّة في هذا لتسهم في نشر التقنية، وتقديمها لجميع فئات المجتمع، وهناك مبادرة (سماي) مليون سعودي للذكاء الاصطناعيِّ التي أطلقتها سدايا وغيرها من المبادرات، وآخرها مبادرة 3000 مطوِّر في الحوسبة السحابيَّة، التي أطلقتها أكاديميَّة طويق، وهذا مؤشر كبير على الاهتمام العظيم الذي توليه الدولة بنشر هذه الثقافة، وتوفيرها لجميع فئات المجتمع؛ ليسهم الجميع -بدون استثناء- في دفع عجلة التنمية في هذا البلد العظيم.
وأنا هنا لست ممن يقف ضد التقنية وتوظيفها لكن لي وجهة نظر متواضعة فيما يخص توظيف هذه التقنية على إطلاقها في مراحل التعليم فنحن نعلم جميعاً أن التعليم هو النواة والنقطة التي تنطلق منها جميع المهن فهو الذي يمد المجتمع بجميع قطاعاته ومؤسساته بالمهندس ورجل الأعمال والطبيب والقادة والفنيين وغيرهم فالتعليم هو الذي يعدهم للمشاركة في سوق العمل ولهذا فإن تعويد الطلاب في مراحل التعليم على الاتكال على التقنية في إنجاز مهامهم فإن ذلك من وجهة نظري المتواضعة سيسهم في عدم تعلمهم لمهارات كثيرة أو فقدانهم لها إن كانوا في مراحل متقدمة.
فعلى سبيل المثال عندما نكلف طالب بحل معادلة حسابية ثم يستعين بالذكاء الاصطناعي وبعطيه الإجابة جاهزة فإن ذلك سيجعله يستغني عن كثير من المهارات الحسابية والتي سيحتاجها مستقبلا وعندما نكلفه ببحث مصغر ويأتي بالبحث جاهز فإنه لن يتعلم مهارات البحث والتي يفترض أنه لم يصل إلى المرحلة الجامعية إلا وهو يجيدها وقس عليها اعداد عرض أو ورقة عمل أو مشروع كل هذه المهام إن لم يقم بها الطالب ويمارسها بنفسه فلن يتحقق الهدف من هذا التكليف ولذلك هناك بعض الدول بدأت تقنن التعامل مع التقنية وتوظيفها.
ولذلك أتمنى لو نعيد النظر في هذا الأمر ونقنن توظيف التقنية والذكاء الاصطناعي وأن نحرص على تطبيق الطلاب للمهارات فعلياً وبشكل واقعي قبل الانغماس في التقنية والاستفادة منها.
ومن وجهة نظري الخاصة فإن ما ينطبق على قطاعات الصناعة والتجارة وغيرها من القطاعات التي تستخدم التقنية في إنجاز الأعمال لا ينطبق على النظام التعليمي الذي يقع على عاتقه تعليم وتطبيق المهارات التي يحتاجها الفرد في دخوله لسوق العمل وإنجاز الأعمال وفي جميع مناحي حياته.
وأنا من خلال هذا المنبر أوجه دعوة لجميع الباحثين المهتمين بمجالي التعليم والتقنية أو توظيف التقنية في التعليم أن يولوا هذه القضية شيئاً من الاهتمام التي أراها من القضايا المهمة والمفصلية في التعليم ويوافوا الوزارة والمجتمع التعليمي بالنتائج.