لا أحد يستمع إلى همسات الجدار!

لا أحد يستمع إلى همسات الجدار!

من المفارقات العجيبة في هذا العصر أنّ الجدران أصبحت أكثر سماكةً من قلوب البشر.

صار بإمكانك أن تعيش سنوات في بيتٍ لا تعرف من يجاورك. لا اسمًا، ولا صوتًا، ولا حتى ملامح عابرة في المصعد.

ولست هنا بصدد الرثاء على زمنٍ مضى، ولا البحث عن علاقات اجتماعية مثالية، لكنّي أتحدّث عن تراجع صامت في واحدة من أهم صور التماسك البشري: الجيرة.

بعض الناس بات يرى الجيرة عبئًا محتملاً، ويفضل أن يكون «محايدًا»: لا يُؤذي ولا يُؤذى.

كأنّها معاهدة صامتة لعدم التدخل، أو ما يشبه «اتفاق جنيف» بنسخة سكنية.

ولو أنّ المسألة توقّفت عند الحياد لكان الأمر مقبولًا، لكن الواقع يقول إن كثيرًا من الجيران لم يعودوا حتى يلقوا السلام.

باب يُغلق، سيارة تُركن، نظرة لا تكتمل… ثم كلٌ في شأنه، وكأن من يجاورك هو كائنٌ شفاف.

في إحدى فترات وجودي بالخارج، عشت تجربة لا أنساها.. كنت في مدينة باردة في شمال شرق بريطانيا.. أحد الزملاء كان يسكن قُربي، كنا نطرق أبواب بعضنا بطبق طعام، لا بدافع المجاملة، بل بدافع إنساني لا يُعلّم في الجامعات.. نجلس لساعات، نتحدث عن ضغوط الغربة والدراسة، نضحك ونفرّغ شحنات التوتر.

لم تكن بيننا قرابة، ولا كان أحدنا ينتظر من الآخر مقابلًا.. كانت الجيرة بكل معناها الحقيقي: مشاركة، وسند، وشعور أن هناك من يشعر بك في لحظة الصمت الطويل.

حين عدت لاحقًا إلى مدينتي، لم يكن الأمر كما كان.. أصبحت العلاقة مع الجار مشروطة بالضرورة: شكوى، إزعاج، ملاحظة.

وحتى حين يُطرَق الباب، غالبًا ما يكون السبب طارئًا، لا إنسانيًّا.

أحد الجيران كان يركن سيارته أمام مدخل منزلي بشكل يومي. لم أغضب من الموقف، لكن ما أدهشني أنه لم يعرف أنني أسكن هنا، رغم أنّنا نتشارك ذات الرصيف منذ أشهر.

ربما ما نفتقده ليس الجيران، بل تلك «النية الطيبة» التي كانت تحرك الجيران.

النية التي تجعل من طبق بسيط دعوة، ومن ابتسامة سلامًا، ومن جدارٍ حاجزًا لكنه لا يحجب الشعور.

وما نحتاجه اليوم، ليس أن نعود إلى زمنٍ مضى، بل أن نعيد الحياة إلى قيمة كانت يومًا تمارس بفطرة: أن يشعر بك من يسكن قربك، لا أن يتجاهلك كأنك غير موجود.