سعف النخيل… كنز يُشكل بروح التراث

سعف النخيل… كنز يُشكل بروح التراث

في عمق القرى السعودية، حيث تلامس الشمس رؤوس النخيل كل صباح، تنسج أيادٍ خبيرةٌ من سعفها كنوزاً لا تلمع كالمعادن، بل تنبض بعبق التاريخ وروح الأصالة، عبر مشغولات يدوية متنوعة ومختلفة، تُشكّل مجتمعةً جسراً حياً بين تراث الأجداد وطموح الأبناء ورؤاهم التي تتحول لمنتجات ذات مردودٍ اقتصادي مُجدٍ.

لطالما كانت حِرفة صناعة “المديد” و”المراوح” و”السِلال” وغيرها من المنتجات النخيلية جزءاً من الهوية البيئية والاجتماعية للمناطق الزراعية، خصوصاً في الأحساء والقصيم ونجران، حيث تنمو النخلة في قلب كل بيت ومزرعة. واليوم، تعود هذه الحِرفة لتتصدّر المشهد مرة أخرى، مدفوعةً بزخم مبادرة عام الحِرف اليدوية 2025 التي أطلقتها وزارة الثقافة مؤخراً.

وفي ظل الاهتمام المتزايد بالسياحة الثقافية والتراثية، باتت هذه المشغولات محط أنظار الزوّار من داخل المملكة وخارجها، ما جعل بيعها غير محصور في الأسواق الشعبية فقط، بل أصبحت تُعرض في فنادق ومنتجعات ومتاحف ومراكز ثقافية، وتُدمج في تصاميم حديثة كتذكارات فاخرة تعكس روح المكان، هذه المشغولات البسيطة في شكلها، والمعقدة في صنعها، تروي قصصاً عن الصبر، والارتباط بالأرض، والإبداع في تحويل الموارد الطبيعية إلى أدوات حياةٍ وجمال.

كما أتاحت هذه الحِرفة أبواباً جديدة لروّاد الأعمال المحليين، ليؤسسوا مشاريعهم المستقلّة انطلاقاً من عملهم في منازلهم، فيما ساهم دعم الجهات الحكومية في ازدهار المشاريع الصغيرة والمتوسطة، من خلال توفير مساحاتٍ لهم للبيع في المناسبات والمهرجانات الموسمية والمعارض الدولية والفعاليات المختلفة، إضافة للمنصات الإلكترونية، ليصدّروا أعمالهم إلى المهتمين بالفن التقليدي حول العالم.

كما ساهمت العديد من المبادرات التي أطلقتها وزارة الثقافة بالتعاون مع شركائها في إطلاق جمعيات تعاونية ومراكز حرفية ودورات تدريبية مكثفة في تحويل الحرفة من موروثٍ مهدد بالاندثار إلى فرصة اقتصادية مستدامة.

وتُعد مبادرة “عام الحِرف اليدوية 2025” حافزاً رئيسياً لإعادة إحياء هذا الفن، من خلال دعم الحرفيين، وتطوير المنتجات وقنوات التوزيع، وتعزيز التكامل مع قطاعات السياحة والتعليم والابتكار. وهي لا تكتفي بإحياء الماضي، بل تصوغه برؤيةٍ عصرية تُراهن على الإبداع المحلي في تنشيط الاقتصاد وترويج الهوية السعودية عالمياً.

وفي نهاية المطاف، لم تعد سعفة النخيل مجرد ظلٍّ يُؤوي من حرارة الشمس، بل أصبحت رمزاً للضيافة السعودية، ومنتجاً ثقافياً وسياحياً ذا قيمة اقتصادية متصاعدة، وما كان يُصنع بالأمس لحاجة يومية، يُصنع اليوم لفخرٍ وطني، وغدٍ يستثمر في الجذور.