صيدليات الطوارئ: دواء محدود وزخارف كثيرة!

صيدليات الطوارئ: دواء محدود وزخارف كثيرة!

إلى زمن ليس بعيدًا كثيرًا، كانت الصحف، ونشرات الأخبار التلفزيونيَّة والإذاعيَّة تتضمَّن بيانًا عن الصيدليَّات المناوبة في كل مدينة، خدمةً للمجتمع وللباحثين عن الدَّواء في الحالات الضروريَّة والطارئة. والمناوبة تعني أنْ تعمل الصيدليَّة في أوقات ليليَّة متأخِّرة بعد أنْ تُغلق المحلَّات أبوابها، وينام الجميع.. وكانت فترات المناوبة الليليَّة للصيدليَّات إجباريَّةً، وتتولَّى الشؤون الصحيَّة في كل مدينة التنسيق وعمل الجداول وتوزيعها على الصيدليَّات بالتَّساوي.

في تلك الفترة، فترة الثمانينيَّات والتسعينيَّات الميلاديَّة، لم يكن عدد الصيدليَّات كبيرًا كما هو اليوم، ولم يكن التوسُّع الجغرافي، والتمدُّد العمراني قد أخذ مداه، ولم تكن الخدمات الصحيَّة في أوجها، كما هي اليوم، إضافة إلى الإشتراطات المشدَّدة في تلك الأزمنة لفتح الصيدليَّات، وأهمها شرط المسافة بين الصيدليَّة والأُخْرى والتي كانت ٣٠٠ متر من كلِّ الاتِّجاهات، والتي تقلَّصت مع الزَّمن، وبقرارات وزاريَّة إلى ١٠٠ متر، ثمَّ إلى صفر متر، ثمَّ أُعيدت لمسافة المئة متر، ثمَّ أُلغيت المسافة نهائيًّا، وعادت إلى صفر متر، ولا زالت حتَّى اليوم، وهذا ما يفسِّر في الآونة الأخيرة الأعداد الكبيرة والمتجاورة من الصيدليَّات الضَّخمة في الشارع الواحد، دون مراعاة الجوانب الاقتصاديَّة، وحسابات الربح والخسارة، ومع تكاثر هذه الصيدليَّات عشوائيًّا في كلِّ شارعٍ وحيٍّ، وبكثافة منقطعة النَّظير، ودوام مستمر على مدار اليوم، فَقَدْنَا نغمة الصيدليَّات المناوبة، وبات ٩٥٪؜ من الصيدليَّات مناوبةً تلقائيًّا، ودون إجبارٍ من أيِّ جهةٍ، وباتت هذه الصيدليَّات الضخمة، أو الهايبر فارماسي أشبه بالسوبر ماركت، والهايبر ماركت في بضاعتها ومحتوياتها التي لا يشكِّل الدَّواء فيها إلَّا ١٥٪؜، حيث يجب أنْ تكون نسبة الدواء فيها ٨٥٪؜.

إنَّ انتشار الصيدليَّات بهذه الكثافة المبالغ فيها وتكدُّسها في مواقع تجاريَّة في المدن الرئيسة دون غيرها من المدن الصغيرة يشكِّل -من وجهة نظري- ظاهرة غير صحيَّة، وتنافس تجاري محموم بين هوامير سلاسل الصيدليَّات الكُبْرى للسيطرة والاستحواذ على سوق الدواء الضَّخم الذي لا تنافس فيه، فالدَّواء هو نفس الدواء، والشامبو هو نفس الشامبو في كل مكان، إضافة إلى محاولة إقصاء الشركات الصغيرة والصيدليَّات الفرديَّة من السوق.

وفي المفاهيم الصحيَّة الحديثة تُعتبر الصيدليَّة وحدةً صحيَّةً أُولَى، ومركزًا للتعليم والتثقيف الصحيِّ، ومركز معلومات متقدِّمًا للأدوية والسموم، بوجود الصيدليِّ المتخصِّص، لكنَّها تحوَّلت -للأسف- إلى مركز ضخم لبيع صبغات الشَّعر، ومواد التَّجميل، والخردوات، والحفائض بأنواعها.

في الختام: هل تعود نغمة «الصيدليَّات المناوبة» إلى الوجود؛ لنرى صيدليَّات حقيقيَّة أساسها الدَّواء بدلًا من هذه الدكاكين الضَّخمة بمسمَّى «صيدليَّة»، تبيع كلَّ شيء، وقليلًا من الدَّواء.

د. صبحي الحداد

[email protected]