طفولة معلبة في إطار النضج..!!

وقفتُ أمام فترينة الأجبان في أحد أسواق التموين، أُطيل النظر في جُبنة بقر صفراء، كنتُ أحبُّها وآكلها في طفولتي بمدينة الطائف، وهي جُبنة كاملة الدسم، بل مُتخمة الدسم إذا أردتم وجه الدقَّة اللغويَّة، فضلًا عن كونها كثيرة الصوديوم، بل هي في الحقيقة مُفاعِل للصوديوم مثل مُفاعِل ديمونا النوويِّ في صحراء النقب الفلسطينيَّة، الذي تمكَّنت إسرائيل من تسخيره لصناعة أكثر من ١٠٠ قنبلة نوويَّة، بينما يُحرِّمُ الغربُ المُنحاز إليها امتلاك العرب والمسلمين لأيِّ قنبلة رادعة ومُشابهة!.
ما علينا، والمهم أنَّني اشتريتُ كيلًا واحدًا من الجُبنة كعادة معظم السعوديِّين، إذ يشترون بالكيلو وليس بالجرام كلَّ ما لذَّ وطاب من الطعام والشراب، والجرام جزءٌ من ألفِ جزءٍ من الكيلوجرام، عكس الخواجات في الخارج، الذين يُقنِّنون ولا يُسرفون، ويحسبهم المرء بخلاء، وما هم ببُخلاء، بل معتدلون في إنفاق المال للادِّخار المالي، والحفاظ على الصحَّة التي هي الأغلى لحياة الإنسان!.
وعُدْتُ إلى البيت سريعًا لأتناول فطوري المُكوَّن من تلكم الجُبنة مع خبز الكيتو الصحيِّ، وشاي الكرك الهنديِّ الذي يُخلط مع الهيل والحليب برغوته اللذيذة، وجلستُ آكل من تلك، وأشرب من ذاك بنهم وإسراف، وأتذكَّر أُمِّي -يرحمها الله- حين كانت تُطعمني قليلًا من نفس الجُبنة قائلةً: إنَّها مفيدة، لكن باعتدال، وهي صادقة، أمَّا أنا فنسيتُ أنَّ الجُبنة المُفيدة للطفولة باعتدال ليست مناسبة لجسد الكهولة بإسراف!.
وبعد ساعات من أكلي ما يزيد على ١٥٠ جرامًا من الجُبنة، شعرْتُ بدُوخةٍ تكاد تُسقطني أرضًا، وبدأ خفقان قلبي يزداد، مثل زيادة الخفقان التي تحصل لي عندما أشاهد قناة الجزيرة، وهي تنقل مشاهد قصف أهل غزَّة، وأطفالها، ونساءها، وشيوخها من قِبل إسرائيل المُجرِمة حيًّا على الهواء بالقنابل المُحرَّمة دوليًّا، كما بدأت إحدى أذناي في عزف الطنين المُزعج الذي يُشبه صفير السُّفن وهي تعبر المضائق البحريَّة، وكلُّها أعراض أعرفها جيِّدًا مُذ اكتشاف إصابتي بارتفاع ضغط الدم، ذلك الداء المُزمن الذي يحتاج لحمية صارمة، أو دواء فعَّال، أو سلوكيَّات نفسيَّة وغذائيَّة سليمة، أو كلَّ ما سبق.
وأنا لا أحبُّ قياس ضغطي في المستشفى؛ لأنَّ لديَّ مُتلازمة التوتُّر من قياسه هناك، فقسته في البيت، وكأنَّني قسته في المستشفى، إذ علا مؤشِّر الضغط كثيرًا على غير عادته في البيت، وغنَّى نشيد الثورة عليَّ والعصيان المدني والعسكري، واستمرَّ مرتفعًا ليومٍ كامل، وحرمني النوم الهانئ!.
وعندها طلَّقْتُ هذه الجُبنة بالثَّلاث، وأصغيْتُ لنداء العقل لا المعدة العاطفيَّة، فجسمي لم يعد يتحمَّل أجمل ذكريات الطفولة من شاكلة الدهون الكثيرة، والصوديوم الطَّاغي، ولو أنَّهما كانا في زمنٍ من الأزمان مثل العسل المُصفَّى، والورد، والريحان. وسلامتكُم!.