بين الطموحات والحقائق: المناطق الصناعية ودور الاستثمار الخارجي

تُعد المدن الصناعية والاقتصادية في المملكة من أنجح النماذج الحضرية والصناعية محليا وربما دوليا، وتوفر بنية تحتية عالمية المستوى، ومرافق متكاملة وخدمات متقدمة، وتحمل إمكانيات ضخمة ومقومات صناعية جاذبة، الا أنه يلاحظ أن الإقبال الدولي على الاستثمار فيها لا يتماشى مع التطلعات والطموحات التي تأسست من أجلها، وربما يعود ذلك إلى أسباب متعددة، أولها غياب الترويج الدولي الفعّال، فعلى الرغم من الجهود المحلية الكبيرة التي تبذلها إدارات تلك المدن، إلا أن الرسائل الترويجية لا تزال محدودة التأثير عالميًا، ولا تصل بالشكل الكافي إلى الأسواق الواعدة في آسيا، أمريكا اللاتينية، وأوروبا، اضافة إلى بعض الإجراءات الإدارية -رغم بساطتها مقارنة بالماضي- فلا تزال تمر عبر أكثر من جهة حكومية، مما يطيل دورة التراخيص ويُضعف من جاذبية المدن في أعين المستثمر الأجنبي الذي يقارن بسهولة الإجراءات بدول أخرى منافسة.
وتواجه تلك المدن تحديات حقيقية لا يمكن تجاهلها، تحدّ من قدرتها على جذب استثمارات استراتيجية ذات قيمة مضافة عالية، فالحوافز المقدمة للاستثمار ما زالت بحاجة إلى تحديث نوعي تتماشى مع المتغيرات الاقتصادية والتقنية العالمية. وبينما تتجه الاستثمارات الدولية نحو قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، فلا تزال بعض السياسات الاستثمارية المحلية تركز على الصناعات التقليدية. كذلك محدودية القوى العاملة المؤهلة في التخصصات الدقيقة التي تتطلبها بعض المشاريع الحديثة، وضرورة التعاون الفعّال مع وزارة التعليم وكليات الهيئة الملكية الصناعية بالجبيل وينبع لتوفير برامج متخصصة تُخرّج قوى عاملة مؤهلة تواكب احتياجات الصناعات المتقدمة، وتُخفف الاعتماد على الاستقدام الخارجي.
والأمر لا يتعلق فقط بالإدارات العليا التي تدير المدن الصناعية كجهات منفردة، بل ينعكس أيضًا على التنسيق المؤسسي مع الجهات الحكومية الأخرى، فتداخل الصلاحيات، وتعدد المتطلبات، وتفاوت الأولويات بين الوزارات والهيئات المعنية، عوامل تخلق بيئة غير متجانسة للمستثمر الذي يبحث عن تجربة متكاملة وسلسة. فتطوير منظومة الحوافز، بما يشمل الإعفاءات الضريبية المخصصة لبعض القطاعات الحيوية، وتخصيص أراضٍ صناعية بأسعار رمزية للمشاريع النوعية، من شأنه أن يعيد رسم خريطة الاستثمار في هذه المدن.
في المقابل، تقف أمام صناع القرار فرص كبيرة لإعادة توجيه المسار وتعزيز مكانة المدن الصناعية كمحور استثماري عالمي. وأول هذه الفرص تتمثل في إطلاق حملة ترويجية دولية موحدة بقيادة وزارة الاستثمار، تتبناها السفارات والممثليات التجارية في الخارج، تركّز على إبراز القيمة المضافة لهذه المدن من حيث الكفاءة التشغيلية، الدعم الحكومي، والجاهزية الصناعية. كما أن تطوير بوابة إلكترونية موحدة لإصدار التراخيص، تُشرف عليها الوزارة وبالتنسيق مع الهيئات المعنية، سيكون له دور محوري في تبسيط الإجراءات وتحفيز الدخول السريع للمستثمرين.
وفي سبيل إنجاح هذه المبادرات، يُقترح إنشاء لجنة عليا للاستثمار في المملكة، تضم ممثلين من وزارة الاستثمار، وزارة التجارة، وزارة الموارد البشرية، والهيئات المعنية، وغيرها من الجهات ذات العلاقة، تكون مسؤولة عن التنسيق الفوري وإزالة المعوقات من جذورها.
إن مستقبل المدن الصناعية في المملكة لا يزال واعدًا، وهذا الوعد يحتاج إلى إعادة بناء التكامل المؤسسي، وتطوير أدوات الجذب، وتحقيق تجربة استثمارية مرنة، تحاكي تطلعات المستثمر العالمي، فقط عندها يمكن القول إن هذه المدن أدّت رسالتها كاملة، وساهمت في تحقيق رؤية المملكة 2030 وكما أُريد لها.