الإسلام بعد الفتنة: مساهمة السعودية في ريادة القرن الحادي والعشرين

الإسلام بعد الفتنة: مساهمة السعودية في ريادة القرن الحادي والعشرين

في المقال السَّابق، تناولنا كيف أنَّ العالم الإسلامي بعد “الفتنة الكُبْرى” دخل دوَّامة من الانقسام والصِّراع المذهبيِّ والسياسيِّ، عطَّلت مشروعه الحضاريَّ الجامع لأكثر من أربعة عشر قرنًا. واليوم، ونحن في قلب تحوُّلات القرن الحادي والعشرين، تبدو الفرصة سانحةً لبناء مشروع إسلاميٍّ جديدٍ يتجاوز الماضي المثقل بالأحقاد، ويُعيد للإسلام روحه الجامعة، وعدله المتمدن. لكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه: مَن يمكنه أنْ يقود هذا المشروع؟

الجواب الأقرب إلى الواقع والعقل والمنطق هو: المملكة العربيَّة السعوديَّة.

لماذا؟ لأنَّها الدولة التي اجتمع لها من عناصر الريادة ما تفرَّق في غيرها: الشرعيَّة الدينيَّة المتمثِّلة في الحرمين الشَّريفين، الثقل السياسي، الاستقرار الأمني، المكانة الاقتصاديَّة، والموقع الجغرافي، والمكانة الإسلاميَّة الاستثنائيَّة لخادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. بالإضافة إلى قيادة شابَّة طموحة ممثَّلةً في الأمير محمد بن سلمان، الذي أعاد تعريف دور المملكة في الداخل والخارج، لا كمجرَّد دولة، بل كصاحبة رسالة.

السعوديَّة، ورابطة العالم الإسلامي: من الصوت الهادئ إلى الدور الريادي

رابطة العالم الإسلامي، التي وُلدت في لحظة مفصليَّة من تاريخ العالم الإسلامي، في العاصمة المقدَّسة، مهوى أفئدة المسلمين، مكَّة المكرَّمة، كانت طوال عقود صوتًا جامعًا للمسلمِينَ في أوقات الاستقطاب بين الشرق الشيوعيِّ، والغرب الرأسماليِّ. وكانت المملكة -عبر الرابطة- الصوت المعتدل الذي يمثِّل ويقود الشعوب المسلمة، لا بالتحريض، بل بالبصيرة، ولا بالولاء لمحاور، بل بالولاء لله والوطن والإنسان.

ولعلَّ تجربة الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- تمثِّل المثال الأبرز على قدرة المملكة على تقديم نموذج إسلامي متوازن، يجمع بين الحزم السياسيِّ، والبصيرة الفكريَّة، والمرجعيَّة الدينيَّة. فقد جعل من المملكة مظلة لكل دعاة الاعتدال وأهل الفكر والعلم، وطرح من خلالها مشروع “التضامن الإسلامي”، لا كأداة دعائيَّة، بل كمنهج للتعاون بين الشعوب والدول الإسلاميَّة، يقوم على الثقة والنديَّة والاستقلال.

ذلك المشروع لم يكن مجرَّد شعار سياسيٍّ، بل أُسِّس له عبر المؤتمرات والقمم، وتُرجِم عبر مؤسسات فاعلة مثل رابطة العالم الإسلاميِّ، ومنظَّمة المؤتمر الإسلاميِّ، والبنك الإسلاميِّ للتنمية، وغيرها من المبادرات التي جعلت من المملكة سقفًا حاميًا للتنوُّع الإسلامي، وراعيًا للخطاب الوسطيِّ المعتدل.

اليوم، ومع تصاعد دعوات الكراهية والانقسام، ومع عودة الخطاب المتطرِّف في ثياب جديدة، تبدو الحاجة مُلحَّة إلى إعادة تفعيل دور الرابطة، لا كمجرد واجهة دبلوماسيَّة، بل كمؤسَّسة فكريَّة، فقهيَّة، ثقافيَّة، دعويَّة، تقود خطاب الاعتدال الإسلامي، وتقدِّم النموذج السعودي المتوازن، الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح، بين الشريعة والتنمية، بين العقيدة والإنسانيَّة.

مجمع الفقه الإسلامي في جدَّة: تنشيط وتثبيت المرجعيَّة

في زمن الفتاوى السريعة، والخطاب المتشدِّد، وتضارب المرجعيَّات الدينيَّة، لا بُدَّ من تأكيد المكانة العلميَّة والاعتباريَّة لمجمع الفقه الإسلامي في جدَّة، الذي كان يمثِّل حلمًا بإجماع فقهيٍّ إسلاميٍّ عابر للمذاهب والمدارس.

بقيادة المملكة، يمكن للمجمع أنْ يستعيد دوره كمركز عقل إسلاميٍّ جامع، يُصدر الفتاوى في النوازل الكُبْرى: من الذكاء الاصطناعيِّ، إلى التغيُّر المناخيِّ، إلى الاقتصاد الرقميِّ، إلى القضايا الطبيَّة والأخلاقيَّة. ولِمَ لَا؟ فالسعوديَّة تملك من العلماء، والمؤسسات الأكاديميَّة، والشرعيَّة الدينيَّة ما يجعلها الأجدر بقيادة هذه المرجعيَّة العالميَّة.

منظمة التعاون الإسلامي: من إدارة الأزمات إلى المبادرة

حققت منظمة التعاون الإسلاميِّ لعقود، إنجازات كُبْرى في العمل الإسلاميِّ المشترك، ووفَّقت مواقف الأمَّة تجاه القضايا المصيريَّة. وهي تستحقُّ اليوم مزيدًا من الدعم لتفعيل دورها، والانتقال من دائرة التعامل مع التحدِّيات وإدارة الأزمات، إلى المبادرة الاستباقيَّة لمواجهتها وبأساليب أكثر قوَّة وصلابة ووحدة. فالعالم الإسلامي يواجه أزمات مصيريَّة -من فلسطين إلى الروهينغا، ومن الأقليات في الهند والصين إلى الحروب الأهليَّة- ومهدَّد بأزمات لا تقل خطورة كأزمة المياه، ومؤامرات التقسيم، والحروب التجاريَّة، والتكتلات العالميَّة التجاريَّة والعسكريَّة الصاعدة، والنظام العالميِّ الجديد.

تحت مظلَّة رُؤية 2030، يمكن للمملكة أنْ تحلِّق بأداء هذه المنظَّمة، عبر تنشيط مؤسَّساتها، وربطها بخطط تنمويَّة وتعليميَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة، وجعلها منصَّة أكثر فعاليَّة للعمل الإسلاميِّ المشترك، وإحياء المشروعات والخطط والأحلام الكُبْرى التي واكبت مراحل التأسيس. ومن الأمثلة التي تحضرني مشروع السوق الإسلاميَّة المشتركة، والدينار الإسلامي للمعاملات البينيَّة والدوليَّة، والبنك المركزي لرسم السياسات الماليَّة، وتنظيم البنوك وأسواق المال. والجيش الإسلامي المشترك، وصناعة السلاح التعاونيَّة، وقوات حفظ السلام، وفض المنازعات بين الأشقَّاء. والجامعات ومراكز البحوث المشتركة. والشبكات الحديديَّة والكهربائيَّة والمائيَّة، وطرق التجارة السريعة.

البنك الإسلامي للتنمية: من المموِّل إلى الشريك

البنك الإسلامي للتنمية، ومقرُّه جدَّة، يمثِّل ذراعًا ماليَّة عملاقة، برصيد عظيم للعمل التنمويِّ المهني المنتج والمُجدي في العالم الإسلاميِّ، لكنَّه، حسب نظامه الأساس، ظلَّ يعمل وفق نمط “التمويل التقليدي” للمشروعات في العالم الإسلامي. ما يحتاجه اليوم هو أنْ يتحوَّل إلى شريك تنمويٍّ حقيقيٍّ، يتكامل مع الصناديق السياديَّة السعوديَّة، مثل صندوق الاستثمارات العامَّة، في بناء بنية تحتيَّة اقتصاديَّة إسلاميَّة مشتركة، تبدأ من إفريقيا وآسيا، ولا تنتهي عند آسيا الوسطى وأوروبا الإسلاميَّة.

الإعلام الإسلامي: رُؤية مستقبليَّة

المؤسسات الإعلاميَّة الإسلاميَّة عديدة، وتشمل وكالة أنباء واتحاد إذاعات إسلاميَّة، بإمكانها أنْ تصنع الفرق في نشر الوعي، ومحاربة التطرُّف، ومواجهة حملات الإعلام المعادي الممنهج ضد الإسلام والقضايا الإسلاميَّة، ومحاربة ظاهرة الإسلام فوبيا التي باتت تسيطر على الثقافة الغربيَّة، وتهدِّد الأقليَّات المسلمة. وفي عصر البث الرقميِّ، ووسائل التواصل الاجتماعيِّ نحن بحاجة إلى تجديد حياة هذه المؤسسات، بالاستفادة من مهارات الجيل الجديد والتقنيات الحديثة وتطوير لغة الخطاب لتواكب العصر وثقافة الأجيال.

الجامعات السعوديَّة: من التعليم إلى الريادة الفكريَّة

التعليم هو قلب المشروع الحضاري. وإذا أردنا نهضة إسلاميَّة حديثة، فلا بُدَّ من تطوير الجامعات السعوديَّة، لتكون منارات فكريَّة عالميَّة، تعيد صياغة المفاهيم الإسلاميَّة بلغة العصر، وتخرِّج قادة فكر، لا موظَّفين تقليديِّين.

رُؤية 2030 فتحت الباب لهذا التحوُّل، والفرصة اليوم سانحة لربط هذه الجامعات بمراكز الفكر والبحث في العالم الإسلاميِّ، وربَّما تأسيس “جامعة رقميَّة إسلاميَّة عالميَّة” برعاية المملكة، تخاطب الشباب المسلم بلغاتهم وتحدِّياتهم المعاصرة.

قائد التحوُّل الإسلامي القادم

مثلما وحَّد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أرض الجزيرة، وأسَّس دولةً قويَّةً مستقرَّةً، وأسَّس الملك فيصل مشروعًا تاريخيًّا للتضامن الإسلاميِّ، ثبته أُخوته من بعده، يقود اليوم الأمير محمد بن سلمان، برعاية وتوجيه خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، مشروعًا لا يقل أهميَّة: توحيد الرُّؤية، وتجديد الخطاب، وتفعيل العمل المؤسسي، وقيادة نهضة حضارية إسلامية، تتحدث للعالم بلغة العصر، دون أنْ تتخلَّى عن روحها وقيمها.

خطابه في الداخل عنوانه التنمية، والتمكين، والتطوير، وفي الخارج الاعتدال، والسيادة، والعمل المشترك. تحرُّكاته ليست فقط سياسيَّة، بل فكريَّة وثقافيَّة واقتصاديَّة، تصنع الفرق، وتبني الثقة.

فهل نعيش اليوم لحظة التحوُّل الكُبْرى في العالم الإسلاميِّ؟

هل آن أوان أنْ ترى الأمَّة مشروعًا جديدًا يقودها من التبعيَّة إلى الريادة، من التمزُّق إلى الوحدة، من التردُّد إلى المبادرة؟

إذا كانت الإجابة “نعم”، -وأظنُّها كذلك- فالمملكة هي القادرة، والأمير هو المؤهَّل، واللَّحظة التاريخيَّة تنتظر فقط أنْ تُكتَب بإرادة الشعوب، وثقة القيادات.

باحث إستراتيجي

@kbatarfi