الذهنية التي يعتمد عليها نتنياهو

يكشف بنيامين نتنياهو في كتابه: «مكان تحت الشمس»، عن بنية فكريَّة لا تترك مجالًا للَّبْس في فهم دوافعه وقراراته، فهي تقوم على فلسفة صداميَّة واضحة، لا تؤمن بالحلول الوسط، ولا ترى في العالم العربيِّ إلَّا بيئة يجب السيطرة عليها، لا التعايش معها. هذه الرُّؤية، التي تتنكَّر للحقوق، وتتجاهل السياقات، وتُضفي شرعيَّة مطلقة على القوة، تضعنا أمام حقيقة لا يمكن إنكارها: «العالم يتعامل مع متطرف».
الكتاب، الذي يمثِّل مرجعًا في فهم نتنياهو، يندرج ضمن «الواقعيَّة الهجوميَّة» في النظريَّات السياسيَّة، وهي منهجيَّة تُسقط فكرة التوازن أو التفاوض المتكافئ، وتُعلي من منطق القوة والرَّدع، مع تحميل الآخرين مسؤوليَّة الفشل، أو الدفع نحو التنازلات.
في عقل نتنياهو، الأمن هو الغاية، وكل ما عداه تابع له، سواء كان سياسةً، أو اقتصادًا، أو دبلوماسيَّةً. والأمن هنا لا يعني حماية الحدود فقط، بل فرض الهيمنة، والإبقاء على حالة تفوُّق دائم في كل أبعاد القوة.
في قراءته للتاريخ، يعيد نتنياهو إنتاج أسطورة استيطانيَّة تمنح اليهود حقًّا تاريخيًّا وأخلاقيًّا في أرض فلسطين، ويصف الفلسطينيِّين بأنَّهم شعوب «عاجزة»، لم تُطوِّر الأرض، ولم تستفد من مواردها، متناسيًا أنَّ الفقر والتخلُّف الذي أصاب المنطقة، كان نتيجة نظام اقتصاديٍّ مقيِّد، لا إرثًا ثقافيًّا، أو طبيعة بشريَّة. هذا الإسقاط الانتقائيِّ للتاريخ، الذي يُنكر أثر العوامل الاستعماريَّة والسياسات السلطانيَّة -آنذاك- لا يعبِّر عن رُؤية تحليليَّة، بقدر ما يُعبِّر عن ذهنيَّة انتقائيَّة تبرِّر الاستعمار، وتُبيِّض صفحته تحت غطاء الإنجاز الزراعيِّ، أو التحديث العمرانيِّ.
أمَّا رُؤيته للعرب فتعكس ذهنيَّة استعلائيَّة تفتح الطريق لا لسلام حقيقيٍّ؛ إنَّما لتفجير دائم في المنطقة.
وبتحليل شخصيَّة نتنياهو، نجد أنَّنا أمام «سياسيٍّ» تَشكَّل وعيه في بيئةٍ فكريَّةٍ قائمة على التصلُّب القوميِّ. تأثَّر بوالده المؤرِّخ بن صهيون نتنياهو، الذي كان من أبرز منظِّري الصهيونيَّة القوميَّة المتطرِّفة. ولهذا لم يكن مستغربًا أنْ تأتي سياساته انعكاسًا مباشرًا لما خطَّه في كتابه. ليس في الأمر تباين بين النظريَّة والتطبيق، فالرجل رفض الانسحاب من الضفَّة، وكرَّس الاستيطان، وسعى لفرض الواقع السياسيِّ لا للتفاوض عليه.
ما يُقلق اليوم، هو أنَّ هذا التطرُّف، الذي كان يُقدَّم في السابق باعتباره رُؤية شخصيَّة، أصبح مع الزَّمن نهجًا تتبنَّاه قطاعات واسعة من النخبة السياسيَّة الإسرائيليَّة، حتَّى بات خصوم نتنياهو يتنافسون على مزايدته لا منازعته، ويطرحون ذات المشروعات التوسعيَّة وكأنَّها برامج وطنيَّة لا خلاف حولها.
اليوم؛ العالم بحكوماته ومنظَّماته، يفاوض ويتعاطى مع رجل لا ينتمي إلى معسكر «اليمين الديمقراطيِّ»، هو وبكل وضوح ينتمي إلى طيفٍ أيديولوجيٍّ أكثر جذريَّة، يحمل قناعة ثابتة أنَّ السلام ليس هدفًا، إنَّما هو مرحلة مؤقتة تُستخدم حين تخدم مصلحة إسرائيل. وبالتالي، فإنَّ الإشكال لم يعدْ في مشروعه، الإشكال الحقيقي هو في الصَّمت العالمي تجاهه، وفي قبول التعامل مع عقليَّة كهذه باعتبارها «شريكًا للسَّلام»، رغم كل ما تثبته الوقائع، من أنَّ العالم يواجه تطرُّفًا مؤسسيًّا يرتدي عباءة الدولة؛ ويخطط لسنوات مقبلة من السيطرة والاستعلاء.