التغيير: دراسة تأثير الأعمال الصالحة وتأثير الفراشة

كثيرًا ما تتسلَّلُ مشاعر الإحباط إلى النفوس، وتتراكمُ على القلوب أثقالُها، لا لأن الأمل انطفأ تمامًا، وإنَّما لأنَّ وهجَ اللحظة الراهنة يَطغى -في العادة- على البصيرة، فيحجبُ الرُّؤية عن مقدِّمات أساسيَّة قد يكون استحضارُها كفيلًا بتجديد العزم، وإعادة توجيه البوصلة. وتلك مقدِّماتٌ، إنْ أُخِذت بعين الاعتبار، فإنَّها تصبح وقودًا نفسيًّا وفكريًّا وعمليًّا لا ينضب، يُحفِّز على الحركة المستمرَّة، ويجعل من الإبداع فعلًا يوميًّا؛ لا مناسبةً عابرةً.
أُولى هذه الحقائق أنَّ التغيير البشري بطبيعته لا يشبه الانفجارات الكونيَّة، ولا الطفرات البيولوجيَّة. إنَّه صيرورة.. عمليَّةٌ متدرِّجة في الزَّمن، متشابكةٌ في الأثر. وهو أشبه بنهرٍ يتشكَّل من قطراتٍ صغيرةٍ، لكنَّه لا يتوقَّف عن الجريان. فكل تحوُّل عظيمٍ نراه اليوم كان في بدايته فعلًا بسيطًا بمعنى من المعاني.. وقد يكون فكرةً وُلدت في لحظة تأمُّل، أو مبادرةً خجولة بدأت في زاويةٍ نائيةٍ، أو عملًا صالحًا صغيرًا لم يلحظهُ أحدٌ.
لكنَّ المشكلة، كما تُظهرها التجارب اليوميَّة، تكمن في صعوبة إدراك هذه الصيرورة. فالثقافة العامَّة تميلُ إلى تمجيد «الأحداث» لا «المسارات»، وقد تعوَّدت على أنْ ترى الفعل المؤثِّر في لحظةٍ صاخبةٍ.. وليس في تراكمٍ صامتٍ. ولأنَّنا غالبًا ما نقيس الأثر بالسرعة، فإنَّنا نُصابُ بالإحباط حين لا نرى النتائج الفوريَّة. فيغيب عن وعينا أنَّ بذور التغيير لا تنمو فورَ زراعتها، وإنَّما تحتاج إلى زمنٍ ومثابرةٍ ورعايةٍ.
ولذلك، يصبح من الضروري إعادةُ تأهيلِ وعينا الجماعيِّ والفرديِّ تجاه فكرة الفعل الصغير، وتجاه فكرة العمل الصالح، كما يكرِّره القرآن الكريم في أكثر من خمسٍ وسبعين آيةً. ليس لأنَّ هذا العمل يُعتبرُ مجرد عبادةٍ دينيَّةٍ، بل لأنَّه تجلٍّ يوميٍّ لحيويَّة الإنسان وعلاقته بمجتمعه. فكم من ملايين العرب الذين يحملون في وجدانهم توقًا حقيقيًّا لتطوير مجتمعاتهم، يُفكِّرون كل صباحٍ بعملٍ صغيرٍ صالحٍ.. بكلمةٍ طيبةٍ.. بلمسةِ رعايةٍ، أو إتقانٍ لمهمَّة، أو دفاعٍٍ عن حقٍّ، ثم يتراجعُون؛ لأنَّهم يرون فعْلهم (صغيرا). فالزهد في الفعل الصالح الصغير، هنا، ليس كسلًا فقط، وإنَّما هو نتيجة فهمٍ مغلوطٍ لمعنى التأثير، وكيف يُصنعُ التغيير.
لكن، ماذا لو أنَّ هؤلاء الملايين لم يزهدوا؟ ماذا لو أنَّ كل فردٍ أصرَّ على القيام بفعلهِ الصغير؟ لتراكمت ملايين الأفعال الطيبة الصالحة كل يوم، وحدث التغيير حقًّا. لا على شكل «معجزة» هابطةٍ من السماء، وإنَّما على هيئة تحوُّلٍ متراكم، هادئ، لكنَّه راسخ.
هنا تكتسب «قاعدة أثر الفراشة» معنى عميقًا. ففي علم الفوضى، يُقال إنَّ رفرفة جناح فراشة في البرازيل قد تؤدِّي إلى إعصارٍ في تكساس. فالفعل، مهما بدا تافهًا في عيوننا، قد يُنتج سلسلة من التفاعلات المعقَّدة، المتداخلة، التي يصعب توقُّع نتائجها، لكنَّها بالتأكيد تحدثُ نهايةَ المطاف. وهذا ينطبق على الفعل الإنسانيِّ: فربَّ كلمةٍ قد تلهم ثورة، وربَّ موقفٍ قد يُوقظ ضميرًا، وربَّ صدقةٍ قد تُنقذ مستقبلًا، وربَّ فكرةٍ تُكتب في عتمة الليل قد تصبح بعد أعوام مشروعًا يغيِّر حياة آلاف البشر.
إنَّ الإحباط ليس قدرًا على الإطلاق. إنَّه عَرَضٌ لفقدان الإيمان بجدوى الأعمال الصغيرة. بينما الوعي الصحيح يرى في كل فعلٍ بذرةً، وفي كل لحظةٍ فرصةً، وفي كل نيةٍ صادقةٍ إمكانيةً لحركةٍ في نهر الحياة. من هنا، فإنَّ الوقود الحقيقي للتغيير لا يأتي من الانتصارات المدوِّية، وإنَّما من الإيمان العميق بأنَّ كل خطوةٍ مهما صَغُرت، هي جزءٌ من الطريق.
هكذا تُصبح الرُّؤية أكثر اتِّساعًا: فلا نعود ننتظر «الحدث الكبير»، وإنَّما نُشارك يوميًّا في صناعته. لا نُعظِّم فقط الثمار، وإنَّما نحترم الجذور. لا نُراهن على المفاجآت، وإنَّما نُراكم الأثر. وهذا ما يُحوِّل الشعور بالعجز إلى وعي، واليأس إلى عزيمة، والركود إلى حِراك.
وهنا تتجلَّى الحقيقة الأعمق: إنَّ الإيمان بجدوى الأفعال الصغيرة ليس مجرَّد تبنٍّ لأسلوب حياةٍ أفضل على المستوى الخاص، وإنَّما هو الذي يفتح الأفق لمشاركة كلِّ فردٍ في المجتمع في عملية التغيير. فالأحداث الكُبْرى لا تحصل، في الواقع، إلَّا من خلال الدول، أو الوحدات الاجتماعيَّة الكُبْرى. أمَّا هذا النوع من الإيمان بصيرورة التغيير، فيوسِّع رقعة الفاعليَّة لتشمل الجميع، كبارًا وصغارًا، أقوياءَ وضعفاءَ، مثقَّفِينَ وبسطاءَ.
إنَّه يضع التغيير في متناول كل فرد، شريطة أنْ تعم هذه الثقافة، وأنْ يُربَّى الناس على معنى أنَّ كل فعل، مهما بدا ضئيلًا، إنَّما هو في حقيقته مساهمةٌ في صياغة واقعٍ جديدٍ ومختلفٍ.