من الخصوصية إلى العرض… كيف تتحول حياتك إلى “محتوى”

منذ سنوات ليست بالبعيدة، بدأنا نلحظُ تحوُّلًا جذريًّا في مفهوم «الخصوصيَّة» داخل مجتمعنا، لم يعد الحيِّز الخاص محصورًا بين جدران المنازل، ولا باتت العلاقة الأُسريَّة تُدار فقط خلف الأبواب المغلقة.
تحديدًا مع تنامي استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعيِّ، أصبحنا أمام مشهد يوميٍّ جديد: أُسرٌ توثِّق تفاصيلها من لحظة الاستيقاظ حتَّى وضع الرأس على الوسادة، تنقل للجمهور جدالاتها العائليَّة، زياراتها، نزهاتها، سفرها، وربما حتَّى لحظات توترها، أو دموعها.
قد يقول قائل: ولِم لَا؟
طالما أنَّ هذه المنصَّات تمنح مقابلًا ماليًّا، وبعضها يشجِّع مستخدميه بمكافآت كلَّما زاد عدد المتابعين، وارتفعت ساعات البث، فالمسألة تبدو مفهومة، بل ومغرية.
البعض يرى في نشر الخصوصيَّة ربحًا مشروعًا، وآخرون يعدُّونه وسيلة تعبير عن الذَّات، أو وسيلة لكسر رتابة الحياة اليوميَّة.
لكن -من وجهة نظري- فإنَّ هذه الظاهرة التي بدأت بمزاح لطيف، أو مقطع عفويٍّ، تحوَّلت إلى عادة شبه يوميَّة عند كثيرين، تداخل العام بالخاص، واختلطت الحاجة للتعبير مع الرَّغبة في كسب الشُّهرة، وتفريغ الشحنات الداخليَّة لكن الثمن؟ خصوصيَّة تتآكل، وأُسر تُفتَّح نوافذها للمتابعين دون أنْ تدرك أحيانًا مدى خطورة ما يجري.
صحيح أنَّ بعض هذه المشاهد فيها التزام أخلاقي واضح، ووعي بالحدود، لكنْ في المقابل، نشهد عشرات النماذج التي تسوِّق لحياة مثاليَّة غير واقعيَّة، أو تنقل نقاشات بين أب وأبنائه، أو بين أخت وإخوانها، ربما بدافع «الطرافة»، لكنَّها في النهاية تُجرِّد اللحظات من حرمتها، وتحوِّلها إلى محتوى يُستهلك. ما يقلقني أكثر ليس فقط فقدان الخصوصيَّة، بل جعل هذا النمط من الحياة داخل المجتمع، حتَّى بات من الطبيعيِّ أنْ نرى الكاميرا مرفوعة في كلِّ ركن من أركان البيت، والمشهد مباحًا للكلِّ، مهما كان بسيطًا أو عابرًا.
أنْ يرى الأطفال أنفسهم على الشاشات منذ الصغر، ويكبروا وهم يعتقدون أنَّ كلَّ شيء قابل للنشر، وكل موقف يصلح للعرض، وكل حكاية تُروى بصيغة «لايف».
ومع مرور الوقت، قد لا يفرِّق الجيل الجديد بين الحياة التي تُعاش، وتلك التي تُعرض.
نحن لا نهاجم أحدًا هنا، فلكلِّ إنسان توجُّهه، وثقافته، ومرجعيَّته.
لكن الحديث هنا عن ظاهرة تتشكَّل ببطء، وتؤثِّر على البنية العميقة للعائلة، وعلى مفاهيم تربويَّة واجتماعيَّة كانت تمثِّل لوقت طويل خطوطًا حمراءَ.
ولعلَّنا في هذه المرحلة بحاجة إلى مراجعة واعية، تعيد ترتيب الأولويَّات، وتوازن بين مقتضيات العصر، ومتطلَّبات الحفاظ على كيان الأسرة وخصوصيتها.