من صخب الجماعات إلى سكون الفرد

من صخب الجماعات إلى سكون الفرد

قبل قليل فقط، حذفتُ من إحدى مجموعات «الواتساب» أكثر من ٥٠٠٠ رسالة! تخيَّلوا، خمسة آلاف رسالة في مجموعة واحدة فقط. فكيف ببقيَّة المجموعات التي نشارك فيها؟ العائليَّة، والزملاء، والأصدقاء، والعمل، والهوايات، بل وحتَّى تلك التي لا نعرف كيف دخلناها. سيلٌ من الكلام والصُّور والمقاطع والروابط، بلا توقف، بلا غربلة، وبفائدة قليلة، أو معدومة في معظم الأحيان.

صرنا نعيش في دوَّامة من الإشعارات، لا نكاد نُكمل فكرةً أو حديثًا حتَّى يرن الهاتف. نرفع رؤوسنا من الشَّاشة قليلًا، لنجد أنَّنا أضعنا نصف يوم. لا وقت للهدوء، ولا فسحة للتأمُّل، ولا حتَّى مساحة نفكر فيها بأنفسنا وبمَن حولنا. كل شيء سريع، سطحي، متكرِّر، ومُرهق.

وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد تُقرِّب البعيد فقط، بل بدأت تُبعد القريب أيضًا. ترى مجموعة من الأصدقاء في مقهى، وكل واحد منشغل بجهازه. في البيت، يجلس الأب والأم والأبناء في الغرفة نفسها، لكن كل واحد يعيش في عالمه الخاص على هاتفه.

المشكلة ليست في التقنية، بل في الاستخدام. نحن نستهلك وقتنا وأعصابنا في قراءة ما لا يلزم، والرد على ما لا يستحق، ومتابعة ما لا يفيد. والأسوأ، أنَّنا نكرر ذلك كل يوم، وكأنَّنا لا نتعلَّم.

السؤال المهم: متى نتوقَّف؟ متى نقول «يكفي»؟

الجواب بسيط: حين تشعر أنَّ وقتك يُهدر، أنَّ تركيزك يتشتَّت، أنَّ أعصابك تتوتَّر، أنَّ نومك يتأثَّر، أنَّ مزاجك يتقلَّب… فهذا هو الوقت المناسب للانسحاب، أو على الأقل للتقليل.

جرِّب أنْ تحذف مجموعةً، أو تطبيقًا لا يقدِّم لك شيئًا. جرِّب أنْ تترك هاتفك في غرفة أُخْرى ساعةً يوميًّا. اقرأ كتابًا، اخرج للمشي، اجلس مع أهلك، دون أنْ تقاطعك إشعارات.. ستُفاجأ بأنَّ الحياة ما زالت جميلةً… وربَّما أجمل ممَّا تعرضه لنا الشاشات.

الهاتف أداة، لا يجب أنْ يكون سجنًا. والخروج منه ليس خسارةً، بل راحة. وعند التخفُّف من هذا الزَّخم الرقميِّ، ستجد شيئًا غاليًا كان غائبًا: الهدوء النفسي، والقدرة على التأمُّل، وراحة فكريَّة كنت تفتقدها دون أنْ تشعر. فالعقل الذي تزدحم فيه مئات الرسائل يوميًّا، يتعب، وتضطرب مشاعره، ويصعب عليه التَّمييز بين ما هو صحيح وما هو مشوَّه، أو غير دقيق. أمَّا حين نمنحه لحظات من الصفاء، فسيرتِّب أفكاره، ويستعيد توازنه، ونستعيد نحن أنفسنا.