«لابوبو».. والسعي وراء الجماهير!

ذهنيَّة القطيع نظريَّة قديمة، حتَّى أنَّ «نيتشه» كان همُّه أو شغلُه الشَّاغل استمالة النَّاس للخروج عن القطيع، قائلًا: «أنْ أستميلَ الكثير للخروج عن القطيع.. ذلك هو العمل الذي جئتُ من أجله».
أي أنَّ: «ذهنيَّة القطيع»، أو نظريَّة سلوك القطيع، تُمثِّل سلوكًا بشريًّا قديمًا، وهي تُطلَق على سلوك الشخص في اتِّباع الجماعة التي ينتمي لها دون تفكير أو تخطيط! كما أنَّه مصطلح يُطلق على تصرُّف الحيوانات في القطيع، أو السرب من الطيور، التي تتبع بعضها في السير في نفس الاتجاه دون تفكير؛ لأنَّها لا تملك العقل الذي يُميِّز الإنسان، ويُمكِّنه من الاختيار الصحيح، دون أنْ يكون تابعًا لحركة الجماعة، أو تصرُّفات الآخرين.
في عصرنا الحالي، زاد انخراط النَّاس في القطيع، بعد أنْ أصبح العالم قريةً صغيرةً، حيث ينتقل السلوك بشكلٍ مباشرٍ إلى أنحاء الكرة الأرضيَّة بضغطة زر، لذلك استغلَّ المبدعون، ورجال الأعمال والصناعة هذه الظاهرة، التي كان لابُدَّ لها من التقلُّص والانكماش، مع التطوُّر الذي أحرزته البشريَّة، ولأنَّ الإنسان ازداد علمًا، فالعلم يُنير الطريق، ويُصحِّح المفاهيم، ويرفع قدرة الإنسان على الاختيار، وعلى أنْ يكون متفرِّدًا في اختياراته، لا تابعًا باندفاع وتكالب كما يحدث عند ظهور سلعة جديدة.
لا شكَّ أنَّ أساليب الدعاية المبتكرة لترويج السلع وحصد الملايين، من خلال الاستفادة من ظاهرة «ذهنيَّة القطيع»، كذلك الطوابير الطويلة أمام المتاجر، تُشكِّل تحريضًا علنيًّا للانخراط في التجربة، والوقوف ربما لساعات؛ لأنَّه وثق في الطابور، وهو لا يدرك أنَّ ما يراه هو تكدُّس ربما لا يعني له شيئًا، وليس بذات أهميَّة، وربما يكونون أشخاصًا مدفوعًا لهم لإيهام الآخرين بالأهميَّة.
عند إظهار الطابور الطويل المتدفِّق؛ للحصول على السلعة، فإنَّ الجميع يندفع، ويتكدَّس، ويتقبَّل السعر المبالغ فيه، كما يتقبَّل شروط البيع المُجحفة في حقِّه على الاختيار.
ربَّما تمثِّل اللعبة الجديدة «لابوبو» أصدق مثال على ما ذكرته سابقًا، فهي عبارة عن دُمية صغيرة بلاستيكيَّة طولها 131سم، أنتجتها الشركة الصينيَّة «POP MART» التي تخصَّصت في إنتاج الدُّمى الغامضة، وهي صناديق تُباع دون معرفة محتواها.
رأيتُ الطوابير الطويلة في ميلانو «إيطاليا»، سألتُ ابنتي، وأنا لا أعلم أنَّ ابنتي الأُخْرى خاضت مغامرة الوقوف في الطابور تحت إلحاح صغارها، وأنَّها حصلت على علبتين مغلقتين لم تكونا بذات اللون الذي رغبت فيه ابنتها.
حكى لي حفيدي حكاية «لابوبو»، لا أعرفُ إذا كان اخترعها بخياله الطفوليِّ الخصب، أم أنَّها حكاية حقيقيَّة، لكنَّ حفيدتي لم ترغب في امتلاكها؛ لأنَّها لم تعجبها.
كثيرة هي الحالات التي يضطر فيها الآباء والأمهات لاقتناء لعبة، أو دُمية مثل «باربي» إرضاءً لأطفالهم، لكنِّي أرى أنَّ هذه هي البداية التي تُحوِّل الطفل من إنسانٍ متفرِّد له احتياجاته واختياراته، إلى فردٍ في قطيع، كلَّما كبر وتمَّ التعامل معه بذات سلوك الاستجابة لاقتناء كل ما رأى إعلاناته، أو تداولته وسائل التواصل.
نحن نمارس ذهنية القطيع عندما نُقلِّد الآخرين في مناسباتهم وأفراحهم، حتى في حالات المرض والموت، نجد أنَّنا ننساق خلف ممارسات أو تقليعات رأيناها أو سمعنا عنها فطبقناها بحذافيرها.
هذه الطريقة، أو ما يُعرف بـ»ذهنيَّة القطيع»، تقتل بذرة الابتكار، وتُوقف عقولنا عن التفكير والإبداع.
بالنسبة لاقتناء حفيدي لهذه الدمية البشعة «لابوبو»، أبديتُ تحفُّظي واعتراضي وحُزني؛ لأنَّهم وقفوا في طابور طويل، ولم يتمكَّنوا من الاختيار.
كانوا محظوظين؛ لأنَّهم حصلوا عليها، فكثيرًا ما تنتهي الكميَّة، ولا يجني المتزاحمون سوى العودة خاليي اليدين في حسرةٍ وكمدٍ، بالإضافة إلى الانهيارات العصبيَّة لمن استلم دُمية ليست كما يرغب.
كلها حكايات أنصت لها عن تجربة حقيقيَّة، وأنا مندهشة من هذا التكالب على منتجات يتم الترويج لها، بأساليب تستهدف هذه الذهنيَّة الهشَّة التي تركض خلف القطيع. كما أتمنَّى ألَّا يسارع تجَّارنا الأوفياء باستيرادها، وفتح قائمة الطوابير، ودعم ذهنيَّة القطيع من أجل «لابوبو».