ما بعد الفتنة الكبرى: منظور إسلامي حكيم للقرن الحادي والعشرين

ما بعد الفتنة الكبرى: منظور إسلامي حكيم للقرن الحادي والعشرين

منذ الفتنة الكبرى التي اندلعت بين الخليفتين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، دخل العالم الإسلامي مرحلة انقسام عميقة لم تندمل حتى يومنا هذا. لم يكن ذلك الخلاف مجرد لحظة سياسية عابرة، بل لحظة تأسيسية لانقسام مزمن، فتح الباب لصراعات مذهبية وسياسية ودينية واجتماعية امتدت على مدى أربعة عشر قرنًا.

منذ ذلك الحين، غاب المشروع الحضاري الإسلامي الجامع، لتحلّ محله مشاريع متنافسة، تبحث عن شرعية ماضوية أو غلبة عسكرية أو تفوق مذهبي. واليوم، في عالم يتغير بسرعة مذهلة، بات السؤال الملحّ: هل يمكن أن نخرج من هذه الدوامة؟ وهل يمكن بناء مشروع جديد يتجاوز هذا الإرث المثقل بالدم والانقسام؟

وتتكرر الدعوات للعودة إلى “الخلافة الراشدة”، لكنها تصطدم بعائق الزمن: فالعالم تغيّر، والعقول تغيّرت، والمجتمعات تشكّلت على أسس جديدة. والحق أن الخلافة ليست مجرد نظام حكم، بل كانت لحظة استثنائية في تاريخ الأمة، لن تتكرر شروطها.

ولذلك، فإن المطلوب ليس استنساخ الشكل، بل استلهام الروح. لا نحتاج إلى “خلافة كما كانت”، بل إلى مشروع كما يجب أن يكون: مشروع يتعامل مع الواقع، ويتصل بالإنسان، ويحمل في جوهره قيم العدالة والعلم والعمران.

مشروع جديد لجيل جديد

هذا المشروع الحضاري لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من القاعدة الفكرية. الخطوة الأولى هي إطلاق حوار فكري شجاع وصريح، يشارك فيه علماء ومفكرون ومثقفون من مختلف الاتجاهات والتيارات، لتحديد ما يمكن الاتفاق عليه وتجاوز ما يمكن تجاوزه من الخلافات.

هذا الحوار يجب أن يكون متحررًا من الأجندات السياسية والمذهبية، ويهدف إلى التأسيس لفهم مشترك لمهمة الإنسان في هذا العالم، بما يتجاوز حدود الطائفة، والحزب، والانتماء القومي أو المذهبي.

عندما تتبلور هذه الأرضية الفكرية المشتركة، يمكن نقلها إلى صناع القرار وقادة الحكم، لتُترجم إلى سياسات عامة، مناهج تعليمية، ومشاريع قانونية، تنطلق من مبدأ محوري: “خلافة الإنسان لله في الأرض”، أي تعميرها، وتأمينها، وتطوير قدرات الإنسان وأدواته، لنشر السلام، وتحقيق العدالة، والارتقاء بالقيم الإنسانية.

ولكي يتحول هذا المفهوم إلى واقع، يمكن إطلاق مبادرة إقليمية للحوار الحضاري الإسلامي، تُعقد تحت رعاية دولية وعربية، وتُخصص لتأسيس “ميثاق حضاري جامع” يشكل مرجعية أخلاقية وفكرية للمشروع الجديد.

التحديات: من الخارج والداخل

لا شك أن هذا المشروع سيواجه مقاومة شرسة:

من الخارج: لأنه يتحدى توازنات إقليمية ودولية قائمة على الهيمنة، ويعيد تعريف مراكز القيادة الحضارية في المنطقة. سيُنظر إليه كتهديد لمشاريع بديلة -دينية أو قومية أو مذهبية- تسعى لفرض رؤاها على الجميع.

ومن الداخل: حيث لا يزال البعض يعيش أسر الماضي، ويرى في أي دعوة للتجديد خروجًا على “الثوابت”، أو مساسًا بـ”الفرقة الناجية”. وهناك من يخشى فقدان النفوذ الذي يستمده من الانقسام والاصطفاف الطائفي.

محمد بن سلمان

في ظل هذا التعقيد، تبرز الحاجة إلى قائد يمتلك الرؤية والجرأة والشرعية ليقود تحوّلًا بهذا الحجم. ومن بين أبرز الأسماء، يبرز الأمير محمد بن سلمان بوصفه الأقرب إلى تجسيد هذا المشروع.

فهو قائد لا يهاب التغيير، ويعمل بمنطق التوازن بين الأصالة والتجديد، ويؤمن بأن المشروع الحضاري لا يُبنى بالشعارات بل بالسياسات والاستراتيجيات.

من حيث سقطنا، نبدأ

مشروع النهضة الإسلامية لا يمكن أن يُبنى على الحنين، ولا على اجترار المجد القديم. المطلوب هو نقلة فكرية واعية، تنطلق من الواقع، وتخاطب العقل، وتبني على القواسم الكبرى بدل الغرق في تفاصيل الخلافات.

لقد آن أوان العمل. والفرصة لن تنتظر طويلًا.

ولن نبدأ من الصفر، بل من حيث تعثرت الأمة، لنبني على أنقاض الانقسام مشروعًا إنسانيًا جديدًا، يليق بهذا القرن وتحدياته، ويصلح لأن يكون الجسر بين الماضي المشرق والمستقبل الممكن.

باحث استراتيجي

@kbatarfi