ضجيج الصيحات الحديثة وندرة المعاني الحقيقية

تذوبُ القضايا الحقيقيَّةُ في صخبِ وسائل التواصل الاجتماعيِّ، كما يذوبُ الحبرُ في محيطٍ هائجٍ؛ تفقدُ معناها، وتُسلبُ قيمتها، وتُختزلُ في وسمٍ عابرٍ، أو منشورٍ غاضبٍ لا يصمدُ أكثرَ منْ بضعِ ساعاتٍ.
ثمَّة حقيقةٌ، لا مفرَّ من إعادة التأكيد عليها، في الواقع السوريِّ، والعربيِّ المعاصر: إنَّ قضايا الأوطان أكبرُ، وأكثرُ تعقيدًا، بكثير من أنْ تُفهمَ في لحظة، أو يُحكم عليها بمنشور، أو تُختزل في وسم. فالأوطان كائناتٌ حيَّةٌ، تتنفس التاريخ، وتخوض معارك السياسة، وتتقلَّب على جمر الاقتصاد، وتتشكَّل في مجتمعاتها طبقاتٌ من الذاكرة والوجع والرَّجاء. وفي مثل هذا المشهد، لا يمكنُ التعاملُ مع القضايا الكُبْرى -من إعادة الإعمار، إلى صياغة العقد الاجتماعيِّ، إلى إصلاح المنظومة الأمنيَّة والعدليَّة، إلى التفاوض مع الخارج والداخل- بمنطق الشائعة، أو بمنطق مَن يرى الصورة عبر نافذةٍ صغيرةٍ، ويظن أنَّه أحاط بالمشهد كله.
رغم هذا، نجد، مرةً تلو أُخْرى، كيف أنَّ كثيرًا من هذه القضايا، عندما تُعرض في فضاء وسائل التواصل الاجتماعيِّ، تُفرَّغ من عمقها التاريخيِّ والسياقيِّ، وتُختزل في تعليق أو «ميم»، أو تُستعمل مادةً للتهكم والاصطفاف الفجِّ. ودائمًا ما يغيب السؤال الأهم: ما خلفيَّات ما نراه؟ ما أسبابه المركَّبة؟ وما البدائل المطروحة؟ بل يتم استبدال بذلك كله نبرةٍ عاليةٍ، وأحكامٍ قطعيَّةٍ، وكأنَّ السياسة شأنٌ يقينيٌّ لا يخضع لاحتمالات، ولا يعترف بالتَّعقيد.
بالمقابل، تُدار الدولة، في الواقع الجادِّ، ضمن شبكةٍ معقَّدةٍ من التوازنات المحليَّة والدوليَّة. وكل قرارٍ فيها، حتَّى لو بدا بسيطًا، يمرُّ عبر حسابات معقَّدة: ميزان القوة، التوقيت السياسي، قابلية التطبيق، الأثر المجتمعي، وحتى قدرة الرَّأي العام على الهضم. لا مكان هنا لاستبدال بالمنطق التحليلي، منطق التفاعل اللحظي: كم «لايكًا» حَصَّلتَ؟ مَن أعاد النَّشر؟ هل زاد عدد متابعيك؟ وهكذا، من ممارسات تُغتال معها الفكرة، لصالح الانطباع. ويُغتال المعنى، لصالح التأثير اللَّحظي.
لقد تحوَّلَ هذا الفضاءُ الافتراضيُّ، الذي كان يُفترضُ به أنْ يكون منبرًا لِلحقيقةِ، وصوتًا لِلمعلومة والوعي، بِفعلِ آليَّاته السريعة، ومنطقه القائم على «الانتشار» و»التفاعل»؛ إلى مقبرةٍ صامتةٍ للقضايا الجادَّة. فكلَّما كانت القضيةُ أكثرَ عمقًا وتعقيدًا، زادت صعوبةُ بقائها على قيد الحياة في هذا المحيطِ الذي يُفضِّل السطحيَّةَ والتبسيط. وحتى الألم الإنساني، الذي يحتاج إلى تأمُّلٍ وصمتٍ وتفهُّمٍ عميقٍ، يُصبحُ هنا مجرَّد «محتوى» يُتنافسُ على إنتاجه واستهلاكه، ثم يُرمى جانبًا؛ ليفسحَ المجال لـ»محتوى» آخرَ أكثرَ إثارةً أو جنونًا!.
والأخطر؛ أنَّ ما يجري لا يقتصر على المتابعين العاديِّين، وإنَّما ينسحب أحيانًا على بعض «الناشطين» و»المثقَّفين» الذين يتعاملون مع الشأن العام، وكأنَّه ملعبُ ترفيهٍ، وليس ساحةَ بناءٍ صبورٍ تتطلَّب أدوات الفهم العميق، والعقل البارد، واللِّسان المسؤول.
وحين يتحوَّلُ الوطنُ إلى مادةٍ ترفيهيَّةٍ، أو إلى «بوستات» تثير الانقسامَ، وتُغذِّي الاحتقانَ، فثمَّةَ خطرٌ عظيمٌ: خطر الانفصال بين واقع الدولة، وواقع الرَّأي العام. بين التحدِّيات الحقيقيَّة، وتصوُّرات الجماهير عنها. وحين يتَّسع هذا الانفصال، يصبح الطريق مفتوحًا أمام كلِّ مَن يريد أنْ يملأ الفراغ بالشعبويَّة، أو بالتَّخريب.
إنَّ أخطر ما في تسطيح القضايا الوطنيَّة، هو أنَّه لا يُنتج فقط فهمًا خاطئًا، بل يُنتج مواقفَ خاطئةً، ثم خياراتٍ سياسيةً خاطئةً، تؤدِّي بدورها إلى نتائج كارثيَّة. وقد رأينا ذلك مرارًا في تجارب شعوب أخرى، انهارت فيها المجتمعاتُ تحت وطأة التضليل والإثارة والاختزال.
لهذا، فإنَّ أوَّل ما تحتاجه المجتمعات الخارجة من الحرب، أو الداخلة في مرحلة تحوُّل، ليس فقط حريَّة التَّعبير، وإنَّما وعي التعبير. أنْ نُدرك أنَّ ما نقولهُ عن وطننا ليس مجرَّدَ رأيٍ عابرٍ، وإنَّما هو مساهمةٌ في تشكيل الوعي الجمعيِّ، وفي بناء سرديَّةِ الغد.
والأهم أنْ نتذكَّر، دائمًا، أنَّ الأوطان لا تُبنى بالصراخ، ولا بالصراعات الرقمية، بل بالحكمة، وبالتحليل الرصين، وبالصدق مع النفس ومع الواقع.