أمن الخليج: رؤية سعودية لمستقبل جديد في الشرق الأوسط

تشهد منطقة الخليج العربي تحولات جيوسياسية متسارعة، في ظل تصاعد التحديات الأمنية، وتغيّر أولويات القوى الكبرى، وتنامي الطموحات الإقليمية. وفي خضم هذه المتغيرات، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة مفهوم أمن الخليج بما يتجاوز الأساليب التقليدية في الردع العسكري، نحو بناء مشروع أمني وتنموي تكاملي، يتسق مع الرؤية السعودية 2030 التي تسعى لجعل المنطقة نموذجاً في الاستقرار والازدهار.
أمن الخليج من الردع إلى التكامل
لم تعد مقاربات الأمن المبنية على التسلح وحده كافية لحماية المصالح الخليجية. فالتجربة أثبتت أن الاستقرار الدائم لا يتحقق إلا عبر التكامل الإقليمي الشامل، الذي يدمج الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية، ويوفر بيئة مواتية للتنمية المستدامة والتعاون البنّاء.
رؤية السعودية 2030 قدّمت إطارًا طموحًا لهذا التحول، عبر طرح مبادرات كبرى مثل “الشرق الأوسط الأخضر”، وربط الخليج بمشاريع طاقة ومواصلات واقتصاد رقمي تمتد من الهند إلى أوروبا عبر المنطقة. وهذه الرؤية لا تستبعد أحداً، بل ترحب بكل من يؤمن بالشراكة، ويبحث عن المصالح المشتركة، بما في ذلك الجارة إيران.
ورغم وجود خلافات تاريخية ومخاوف مشروعة، إلا أن النهج السعودي الجديد يسعى إلى تجاوز المواجهة نحو الحوار، وإعادة دمج إيران ضمن النظام الإقليمي من بوابة التنمية والتجارة والاستقرار، لا الصراع والتنافس.
التحديات الأمنية.. سياق متغيّر
لا يمكن إنكار أن الخليج يواجه تحديات حقيقية، بعضها تقليدي مثل التهديدات البحرية والصاروخية، وبعضها جديد مثل الهجمات السيبرانية، والحروب الإعلامية، والاضطرابات الإقليمية. غير أن هذه التحديات لم تعد تتطلب فقط ردودًا عسكرية، بل منظومة شاملة من السياسات الذكية.
ومن أبرز هذه التحديات:
التغير في مواقف الحلفاء الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي باتت تميل للانسحاب الجزئي من المنطقة، مما يتطلب تعزيز الاعتماد الذاتي وبناء تحالفات متنوعة.
أمن الطاقة والممرات البحرية، في ظل تكرار الحوادث في مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر.
الهشاشة الإقليمية في بعض الدول المجاورة، ما يفتح المجال أمام التهريب، والميليشيات، وتداخل الأزمات.
التغيرات الداخلية في مجتمعات الخليج، من تطلعات الجيل الجديد، إلى الحاجة للتنوع الاقتصادي والتحول الرقمي، مما يفرض على الأمن أن يكون مرناً، لا جامداً.
خيارات جديدة للردع والتعاون
إذا كان الماضي قد فرض على الخليج اعتماد مقاربات عسكرية بحتة، فإن الحاضر والمستقبل يفتحان آفاقًا أوسع لأمن شامل يجمع بين الردع والتكامل، وبين القوة والدبلوماسية.
ومن أبرز الخيارات المطروحة اليوم:
بناء قدرات ردع متطورة، تشمل الدفاعات الجوية والسيبرانية، ولكن في إطار تعاون خليجي موحد، لا سباق تسلح منفرد.
التحول إلى الاقتصاد الأمني الذكي، الذي يربط الأمن بالاستثمار، ويجعل من مشاريع الربط الكهربائي، وخطوط النقل، ومبادرات الهيدروجين الأخضر، أدوات لتعزيز الاستقرار الإقليمي.
فتح قنوات الحوار الإقليمي مع كل الأطراف، وفي مقدمتها إيران، من منطلق المصالح المشتركة في الأمن البحري، وتدفق التجارة، والاستقرار الإقليمي.
تعزيز الشراكات الدولية، مع قوى كبرى جديدة مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، دون التخلي عن العلاقات التقليدية مع الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن من موقع الندية والشراكة، لا الاعتمادية.
إدماج إيران في المشروع الإقليمي
في هذا الإطار، ينبغي أن تُعامل إيران ليس كخصم دائم، بل كشريك محتمل، يمكن احتواء الخلافات معه بالحوار، والتعاون في الملفات المشتركة، كالاستقرار في اليمن والعراق، وأمن الطاقة، والتغير المناخي.
نجاح الحوار السعودي – الإيراني، والذي تُوج باستئناف العلاقات بوساطة صينية، يشكل نموذجًا واعدًا لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، إذا ما أحسنت الأطراف استثمار الفرصة، وبناء الثقة على مراحل.
فالمكاسب التي يمكن أن تجنيها إيران من الانخراط في النظام الإقليمي الجديد، اقتصادياً وتجارياً وتنموياً، تفوق بكثير ما قد تحققه عبر منطق المواجهة والعزلة.
الخليج مركز لا هامش
الخليج اليوم لم يعد ساحة صراع فقط، بل مرشح ليكون مركز التوازن والنهضة في الشرق الأوسط الجديد. بشرط أن تتوفر رؤية بعيدة المدى، وإرادة سياسية موحدة، وشجاعة في تجاوز الحسابات القديمة.
إن أمن الخليج ليس هدفًا عسكريًا فقط، بل مشروع حضاري يستند إلى التعاون لا العداء، وإلى التنمية لا النزاع، وإلى القوة الحكيمة لا الصراع المفتوح. ومن هذا المنطلق، فإن رؤية السعودية 2030 تمثل فرصة تاريخية لبناء شرق أوسط جديد، يضم الجميع، وينهض بالجميع.
باحث استراتيجي