التدوين: escape من الجنون

التدوين: escape من الجنون

الكتابة الإبداعيَّة، أسلوب حياة روحيَّة، وطريقة لضبط الانفعالات، والحفاظ على العقل من الشطط، أو الإصابة بـ(العَتَه).. إنَّها ليست رفاهيَّة. يقول الكاتب (غراهام غرين): «الكتابة ضرب من العلاج النفسي… كيف لمَن لا يكتب أنْ يهرب من الجنون، من الكآبة، ونوبات الهلع المتأصلة في طبيعتنا الإنسانيَّة؟!».

لا يتمكَّن الكاتب من الكتابة، حتَّى يبدأ بنقد نفسه، وكشف انفعالاته ووساوسه، والسخرية من العالم، ثم يعود دون شعور للتناقض مع ما كتبه.. إنَّه الهذيان بمعنى الكلمة. يقول (جون شتاينبك): «على الكاتب أنْ يؤمن بأنَّ ما يفعله أهم شيء في العالم، وعليه أنْ يتمسَّك بهذا الوهم حتى وهو متأكد أنَّه مخطئ!».

الكتابة تمزِّقك، تُبعثرك وتُشتتك، ثم تُلملم ما تبقَّى من شعثك، وتتركك كائنًا بهويَّة غريبة، ومصير فكري مجهول. أنْ تكون كاتبًا، يعني أنْ تُدهشك التفاصيل الصغيرة، وتُعطيها العذر لتفسد عليك يومك ومتعتك، وتحرمك من النوم، وتُصيبك بالحزن. يقول الطبيب الأديب (أحمد خالد توفيق): «الكتابة جزء من الجحيم».

تعلَّمت من فن الكتابة، أنْ أتجنَّبها من الأساس، فإنْ كتبت، أحاول الاختصار، ثم أعود لأختصر ما كتبته، ثم أختصر ما اختصرته، ثم أنشره مختصرًا، وأخيرًا، أندم على نشره دون اختصار!. أعلم أنَّه سوف ينتهي بي المطاف يومًا إلى الصمت التام!. يقول (غوستاف فلوبير): «يا لها من مهنةٍ صعبةٍ مهنة الكتابة، القلم أشبه بمجداف ثقيل».

أشعر أحيانًا أنَّ كِتَاباتي لا تُحدِث فارقًا، أو تُؤثِّر بشكلٍ مُعتَبَرٍ.. لكنَّني أكتب على أيةِ حال.. ربما لو لم أكتب، لكنتُ الآن في عداد المضطربين نفسيًّا وروحيًّا، ومَن يعلم! ربما أنا منهم!. ما الكتابة؟.. ما جدواها؟.. هل تقنع أحدًا بشيء؟ هل تُغيِّر رأي أحد؟ لعلَّها نوع من الهذيان، أو كما يقول عنها (جورج أورويل): «شيطان لا يمكن دفعه»!. يصف (سيوران) معضلة أنْ تكون كاتبًا بقوله: «إنِّي لم أعد أؤمن بالكتابة، لكنِّي لا أرغب في التخلِّي عنها».

الكتابة محاولة يائسة لتحدِّي الموت.. إنَّها تجربة لتخليد ذكرى الإنسان بعد تخطِّي حاجز نهاية الحياة. إنَّ الكتابة أمرٌ مُجهِدٌ وعملٌ مُنهكٌ مُثيرٌ للشفقة والحزن، إنَّها فعل شبه فاضح.. وإنْ استطعت، لا تكن كاتبًا أبدًا.. ولا تحاول.. لكن إذا أردتَ الكتابة.. كُنْ نصًّا، لا هامشًا.