المظاهر الكاذبة والمحتوى الفارغ

المظاهر الكاذبة والمحتوى الفارغ

فوائد كثيرة نجنيها من منصَّات التواصل الاجتماعيِّ، «واتساب، تويتر، فيسبوك»، وغيرها من القنوات، فهي وسيلة لتبادل ومشاركة الأفكار والآراء والرسائل بين الأشخاص، سواء كان المحتوى مرئيًّا، صوتيًّا، أو مكتوبًا، قرَّبت المسافات بين الأهل والأصدقاء، وعقدت صداقات، فالتواصل بضغطة زر يتم في التوِّ واللَّحظة.

أصبحت الأسر تلتقي بأبنائها الذين يعيشون بعيدًا عنهم، في الداخل أو الخارج، أسر كبيرة أصبحت تجتمع أسبوعيًّا أونلاين، يتحدَّثون، يزيلون الشوق.

ولأنَّ لكل وسيلة سلبيَّات وإيجابيَّات، لم تخلُ وسائل التواصل الاجتماعيِّ من سلبيَّات، نتيجة التطلُّع إلى الشُّهرة والثَّراء السَّريع؛ ولأنَّ الشُّهرة والثَّراء بحاجة إلى متابعين بالملايين، فالمحتوى المدروس والواعي والمبتكر لن يُعجب التَّافهين القابعين خلف شاشات أجهزتهم الإلكترونيَّة، يُتابعون المُبتذل والتَّافه، بعد أنْ تخلَّى بعضهم عن كثير من القِيَم، واستخدام لغة راقية أو وسطى لعرض محتواهم، إذا كان لديهم محتوى.

من سلبيَّاتها أيضًا أنَّها أحدثت تباعدًا وفجواتٍ بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء، حتَّى عندما يجتمعون، لا يتركون أجهزتهم المحمولة، يتواصلون أو يتابعون، أو أنَّهم يشاهدون المقاطع والمشاهد التي ملأت الفضاء الرقمي، وأصبحت كثيفةً، بحيث إنَّك لن تتمكَّن من إغماض عينيك!.

فهي وسيلة ترفيه أو تمضية وقت، ولكنَّها أصبحت بالنسبة لكثيرين وسيلةَ دخلٍ تُحقِّق أرباحًا مهولةً، فرأينا مَن انتقل من الفقر إلى الثَّراء الذي قاده إلى السفه والاستعراض، وأحيانًا الابتذال!.

ربَّما تُمثِّل منصَّة «Tik Tok» الآن أهمَّ منصَّة ترفيهيَّة، بالرغم من أنَّها منصَّة تجارة إلكترونيَّة «تهدف إلى صناعة المحتوى في عمليَّة إنشاء ومشاركة المعلومات أو الأفكار أو التجارب، من خلال وسائط مختلفة، مثل النصوص والصُّور، ومقاطع الفيديو؛ بهدف الوصول إلى جمهور معيَّن، والتفاعل معه، تتضمَّن هذه العمليَّة التَّخطيط، والإنشاء، والنَّشر، والتَّرويج للمحتوى».

صناعة المحتوى والتَّخطيط له ودراسته هي معايير النَّشر على المنصَّات الرقميَّة، وليس فقط على منصَّة «تيك توك»، لكن ما يُنشر ويُعرض -للأسف- مقاطع لا ترقَى للنَّشر، كما أنَّ بعض الباحثين عن الشُّهرة استخدموا المنصَّة كوسيلة للوعظ، ولكن بأسلوب مبتذل، ولغة سوقيَّة، كذلك استخدام نبرة الصَّوت العالية، والتلويح بالأيدي، وتعبيرات الوجه والعينين، لا تناسب قِيم مجتمعنا، ولا يرقَى الأسلوب أو اللغة أو الموضوع ليكون محتوًى راقيًا يليق بالسيِّدة أو السيِّد، اللذين وجدَا في نفسيهما نموذجًا للمُصلح الاجتماعيِّ.

إحدى السيَّدات من جدَّة تظهر بمكياج كامل وصارخ، منتقدةً كلَّ من تشاهد في المقهى أو الشارع، وتستخدم ألفاظًا هابطةً وشتائمَ، وتدَّعي أنَّها من نُخبة المجتمع، وتُخاطب المرأة بقولها: «يا حُرمة»، كذلك أُخْرى من المدينة المنوَّرة تستخدم مفردة «الحُرمة»، وهي تعتبر نفسها ناقدةً، أو مُصلِحةً اجتماعيَّةً.

هذا الأمر ليس متوقفًا على النِّساء، بل أيضًا من الرَّجال مَن نصَّب نفسه مُصلحًا اجتماعيًّا، ويدَّعي أنَّه «مؤثِّر»، وفي بعض المشاهد يحاول جذب متابعين باللِّبس أو بالحركات.

العيب ليس في المنصات، بل في سوء استخدامها، ومحاولة الخروج بها عن أهدافها، للوصول إلى عدد متابعين يدر عليهم المال، أو ليصبحوا مُؤثِّرين أو مشهورين يتم استقطابهم لنشر الإعلانات عبر منصَّة «تيك توك».

بعض المُعلنين يصرفك عن السِّلعة التي يعلن عنها بأسلوبه وطريقته المستفزَّة؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ ظهوره بذلك الشكل أو بالصُّراخ والقفز يجذب المتابعين، وأنَّ المتابعين سيتهافتون على السلعة التي يعلن عنها، وهو لا يدرك أنَّه ربَّما يكون سببًا في بوارها!.

كانت الإعلانات التلفزيونيَّة تتم صناعتها في شركات الدِّعاية والإعلان بشكل مدروس، وبأعلى جودة؛ لأنَّ مَن يصيغ محتواها مختصُّون وموهوبُون، الآن أصبح الشخص الذي يدَّعي أنَّه مُؤثِّر أو مشهور هو المُعلن، ورغم ذلك يدفع التاجر أو صاحب الإعلان مبالغ طائلة.

بعض المؤسسات الخيريَّة يمَّمت وجهتها إلى مَن يُطلَق عليهم «مُؤثِّرون»، أولئك الذين شكَّلوا عبئًا ماليًّا على المؤسَّسة، كما أنَّ المؤسَّسة خسرت الاحتفاظ بمحتوى إعلاميٍّ صحفيٍّ، أو تلفزيونيٍّ، كما كان الحال قبل هذا الوباء المتفشِّي في قنوات التواصل الاجتماعيِّ، وانبهار الجميع بها، وقضائهم الوقت في متابعتها دون مردود ثقافي يُشكِّل وجدانهم، واستثمار أوقاتهم فيما ينفع، مثل القراءة، أو الذهاب إلى السينما، أو الندوات الثقافيَّة والأدبيَّة التي أصبحت منتشرة في المقاهي، والمؤسسات العريقة.

تدهش من هذا الالتهاء الجماعيِّ وهدر الوقت في التَّافه والهابط، والغياب الجماعيِّ عن المفيد والرَّاقي.