كيف يتولى الأشخاص غير الأكفاء قيادة المنظمات؟ (2)

كيف يتولى الأشخاص غير الأكفاء قيادة المنظمات؟ (2)

كتبتُ قبل فترة الجزء الأول من هذا المقال، وفيه أشرتُ إلى دور مثلث الفساد: (الزيف) + (التسلق) + (اللصوصيَّة الإداريَّة) في وصول بعض الأشخاص غير الأكفاء إلى مناصب لا يستحقونها، ودور مثل هذه الكائنات الغبيَّة في شلل المنظَّمات التي ابتُليت بهم.. واليوم أجدني بحاجة إلى كتابة الجزء الثاني من المقال، بعد أنْ اتَّضحت لي خمسة عوامل أخرى -لا تقل خطورة عن سابقتها- تقف خلف صعود هذه العقليَّات الجوفاء إلى قيادة منظَّمات ومؤسَّسات لا يستحقُّون مجرَّد العمل فيها، فضلًا عن رئاستها وإدارتها.

العامل الأوَّل «الفراغ القيادي»: ففي بعض المؤسَّسات، يكون المنصب القيادي شاغرًا، لا لأنَّ الكفاءات غير موجودة، بل لأنَّ البيئة طاردة، لا تُشجِّع المبدعين، ولا تحمي المخلصين ، ولا تحتمل حتَّى أصحاب الرأي، فيستغل «الأغبى المتاح» الفرصة، ويملأ الفراغ، لمجرَّد أنَّه لا يزعج، ولا يهدد أحدًا، ولأنَّه يقبل أنْ يكون مجرَّد صورة على الحائط، أو ظلًّا لمديرٍ آخرَ عن بُعد!. العامل الثاني «الإرهاق المؤسَّسي»: الإدارات التي تعاني لفترات طويلة من التخبُّط، وسوء الإدارة، تُصاب في الغالب بما يُسمَّى (الإرهاق المؤسَّسي)، الذي تضعف معه القدرة على التمييز بين القائد الحقيقيِّ، ومدَّعي القيادة.. يقول «د. روبرت ساتون» من جامعة ستانفورد: «عندما تُنهك المؤسَّسات، تتَّجه إلى الاختيار الأسهل لا الأنسب»، والأسهل هنا هو مَن لا يُكلِّفهم عناء التَّغيير، ولا يطرح أسئلة مزعجة، ولا يُحرِّك المياه الراكدة، وهذا غالبًا ما يكون «الأغبى»!.

العامل الثالث (النجاة من المحاسبة): عندما تكون بيئة العمل غير خاضعة للمساءلة الحقيقيَّة، من الطبيعيِّ أنْ يتحوَّل المنصب القيادي إلى مكافأةٍ لا مسؤوليَّة، فكل مَن نجا من فشل سابق دون أنْ يُحاسب، يُعتبر ذلك مؤهلًا كافيًا للترقِّي! وفي بيئة بلا تقييم موضوعي، ليس من الغريب أنْ تُقابل الكفاءة بالرِّيبة، ويُكافأ الغباء بالثِّقة!.

العامل الرابع (رهاب الكفاءات): نعم، هناك مَن يخشى أنْ يعلو صوت الكفاءة على صوته، أو أنْ يبرز موظَّف ذكي فيكشف عيوبه، لذلك تجده يُقصي المجتهد، ويُقرِّب الباهت، يفتح الطرق للأغبياء، لا لميزة فيهم، بل لأنَّهم فقط لا يُشكِّلون تهديدًا، وهذا ما يُسمِّيه «جيم كولينز» في كتابه: «من جيد إلى عظيم»، بـ(توظيف مَن يريح لا مَن ينهض).

العامل الخامس «النفاق الوظيفي»: وهذا أقدم الطرق السريعة لوصول محدودي الذكاء وأسهلها، فلا يحتاج إلى كفاءة واجتهاد، بل لقدرة على التزلُّف وتزييف الولاء، وتجميل القُبح، وتحويل كل إخفاق إلى «إنجاز عظيم»، هؤلاء لا يُديرُون المؤسَّسات، بل يُديرُون مصالح المسؤول الذي جاء بهم، ويُتقنُون فنَّ التبرير والتصفيق له.

خلاصة القول: ما يجمع بين هذه الأسباب جميعًا، أنَّها لا تُفضي إلى تطوُّر، بل إلى تدهور منظَّم، قد لا يكون سريعًا، لكنَّه أكيدٌ، فهي وصفة مضمونة لتحويل الكيانات الطامحة إلى جدران خاملة، وأرقام خاسرة.. وهنا تكمن الحاجة المُلحَّة لمواصلة مشروع الحوكمة والشفافيَّة والرقابة المؤسسيَّة، الذي تتبنَّاه رُؤية 2030؛ لأنَّه وحده القادر على إغلاق هذه النوافذ الخلفيَّة التي يتسلَّل منها الرديءُ، ويُقصَى المتميِّز، ويتركنا في النهاية نتساءل في كل مرة: كيف يصل الأغبياء إلى رئاسة المنظَّمات؟!.