لماذا نتجنب الضرائب؟ وما أسباب عدم إصلاح الحكومة؟ (4)

لماذا نتجنب الضرائب؟ وما أسباب عدم إصلاح الحكومة؟ (4)

على مدار 3 حلقات من هذه السلسلة، استعرضت الجذور الهيكلية لأزمة منظومة الضرائب في مصر، بدءًا من فجوة الثقة بين الحكومة والمواطن، مرورًا بتوضيح تبعات الاقتصاد شبه الريعي على تفاقم الأزمة، خاصة مع الاعتمادية على الخارج كبديل للإنتاج، وصولًا إلى طرح مسار علمي للخروج من هذه الفجوة بآليات واضحة تناسب قدرات الدولة.

وفي هذا الجزء الختامي، أتناول محاولات سابقة لتطوير النظام الضريبي في الدولة المصرية، مستعرضًا ما شهدته تلك التجارب من طموح إصلاحي حقيقي وآمال عظيمة، لكن مع قيود بنيوية وسياسية عرقلت التنفيذ ولم تسمح لهذا الطموح بالتحقق الكامل حتى وصلنا إلى هذا الوضع الآن كنتيجة لعقود عديدة من تأجيل قرار الإصلاح الفعلي.

ففي العقد الأول من الألفية، قدم الدكتور يوسف بطرس غالي، وزير المالية الأسبق، نموذجًا لما يمكن تسميته الإصلاح الضريبي التقني، مستفيدًا من لحظة استقرار نسبي، ودعم سياسي واسع، وهدف واضح قائم على تحسين الكفاءة والامتثال.

أبرز سمات هذه المرحلة، كانت محاولات إصلاح ضريبة الدخل من خلال قانون 91 لسنة 2005 بخفض الشرائح وتوسيع القاعدة، ثم التمهيد التدريجي لتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وأيضا تعزيز الرقابة والتحصيل باستخدام تكنولوجيا بسيطة نسبيًا آنذاك.

من الجباية إلى الإصلاح: محطات في تطور النظام الضريبي المصري

وقد نجحت هذه الإصلاحات في رفع الحصيلة الضريبية كنسبة من الناتج المحلي، وتحقيق طفرة في الإيرادات الرسمية، لكنها لم تكن إصلاحًا مكتمل الأركان؛ إذ تم تحقيقها دون مصاحبة إصلاحات في الإنفاق العام أو بناء الثقة مع المواطن، ما جعلها أقرب إلى جباية محسّنة لا إلى عقد اجتماعي جديد، يحظى بدعم الشعب.

وما لبث أن شهدت مصر خلال السنوات التالية محاولات متكررة لتحسين البيئة الضريبية، من خلال تقديم حوافز ضريبية للمناطق الاقتصادية الخاصة، ودعم المشروعات الصغيرة، وتخفيف العبء على قطاعات استراتيجية.

لكن هذه الجهود، كما يبيّن تقرير أندرسن مصر، واجهت تحديات مزمنة، أهمها تعقيد القوانين، وتذبذب السياسات، وضعف الثقة بين الممولين والإدارة الضريبية، إذ أنه -بحسب التقرير-، فإن تعزيز الثقة يتطلب وضوحًا أكبر في اللوائح، وخطابًا حكوميًا يعكس شراكة حقيقية مع المجتمع الضريبي، لا مجرد تحصيل للإيرادات، وهو ما لم يكن متوفر وقتها.

إلى أن جاءت الثورة في 2011 ودخلت السياسات المالية في مصر مرحلة من الارتباك حتى 2015، حيث غابت الرؤية طويلة الأجل، وتمت معالجة العجز عبر حلول جزئية وقتية من رفع الدعم دون إصلاح ضريبي عادل، وزيادة الضرائب غير المباشرة دون توسيع قاعدة ضريبة الدخل.

خلال هذه الفترة لم تكن هناك إرادة سياسية واضحة لتبني إصلاح ضريبي جذري، فبقيت المنظومة غير عادلة، ومعقدة، وتعتمد بشكل مفرط على الضرائب غير المباشرة.

ومنذ 2016، ومع تزايد الانخراط مع صندوق النقد الدولي، بزغت ملامح مقاربة أكثر حداثة تحت قيادة نائب وزير المالية وقتها أحمد كوجك، الذي مثّل مدرسة جديدة في التفكير المالي يتسم بأنه أكثر مرونة، وأكثر دراية بلغة الأسواق والمؤسسات الدولية.

ورغم التزام الحكومة بعدد من الإجراءات التوسعية، إلا أن كوجك تبنّى خطًا مختلفًا في ملف الإصلاح الضريبي، أهم ملامحه توسيع القاعدة عبر الرقمنة، لا عبر رفع المعدلات، واستحداث منظومة الفاتورة الإلكترونية وتكامل قواعد البيانات، والامتناع عن المساس بالإعفاءات الواسعة في ضريبة القيمة المضافة، رغم توصيات الصندوق.

وهنا كان التباين، فبينما دفع صندوق النقد باتجاه مراجعة شاملة للإعفاءات، فضّل كوجك عدم خوض معركة سياسية مع قطاعات اقتصادية حساسة، وراهن بدلًا من ذلك على تحسين الامتثال وتعزيز الثقة لدى المستثمرين بأن الدولة لن تفاجئهم بسياسات ضريبية صادمة.

وهو ما بينه أحد اللقاءات التي أجراها كوجك مع بعثة الصندوق، حيث أشار بوضوح إلى أن مصر بحاجة إلى فترة من الهدوء الضريبي، وأن الاستقرار في السياسات أهم من تعظيم الحصيلة الفورية، وهذه المقاربة، وإن بدت متحفظة، إلا أنها قد عكست وعيًا عميقًا بحدود الممكن سياسيًا واقتصاديًا.

لكن هذه الخطوات قوبلت بقدر من التحفظ داخل أروقة الصندوق، حيث رأى بعض الخبراء أن ما يجري هو إصلاح إداري أكثر منه إصلاح هيكلي يركز على تحسين الامتثال وتطوير الأنظمة دون معالجة جوهرية لاختلالات الإعفاءات أو تفاوتات العدالة الضريبية.

‏‎حيث تظل الإصلاحات الإدارية مهمة، لكنها بمفردها لا تحقق التحول المنشود في تعبئة الإيرادات، فرغم التقدّم في الرقمنة والإصلاحات الإدارية، تؤكد التجارب الدولية وتوصيات صندوق النقد لمصر أن هذه الإجراءات لا تولّد أكثر من 0.5 إلى 1% من الناتج المحلي، وأن تحقيق زيادة فعلية في الإيرادات بنسبة 3 إلى 4% يتطلب إصلاحات هيكلية في السياسة الضريبية تشمل توسيع القاعدة، ومعالجة التشوهات، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والممول.

ورغم ذلك، يمكن القول الآن، أن كوجك كان يراهن على بُعد نظر مختلف خاصة وأن الثقة والاستقرار المؤسسي، حتى وإن بدآ تقنيين، قد يُمهّدان الطريق لاحقًا لإصلاح أكثر جذرية، عندما تكون البيئة السياسية والاجتماعية أكثر استعدادًا لتحمل كلفته، ليبقى التحدي الحقيقي هو أن تُثبت الأيام رجاحة هذا الخيار، بأن تنجح الرقمنة في ضبط الاقتصاد غير الرسمي، وأن تبدأ الثقة في التحول إلى شراكة، وهو ما تتناوله الموازنة العامة للدولة 2025-2026 بشكل رقمي.

فتشير بيانات مشروع الموازنة الجديدة إلى قفزة في إجمالي الإيرادات بنحو 23% مقارنة بالعام السابق، لتصل إلى 3.12 تريليون جنيه، وأن 85.1% من هذه الإيرادات ستأتي من الإيرادات الضريبية، التي يُتوقع نموها بنسبة 27.6%، وفي المقابل، لا تظهر زيادات موازية في المعدلات الضريبية أو اتساع العبء على الاقتصاد الرسمي.

يتضح من ذلك أن هذا النمو في الحصيلة لا يعكس زيادات في أسعار الضريبة، بل تحسّنًا في التحصيل الضريبي، وهو ما يؤكد أن الحكومة تُعوّل على الرقمنة والتوسيع الأفقي للقاعدة الضريبية أكثر من اللجوء إلى الجباية المفاجئة أو القسرية، ورغم أن هذا التوجه يظل محاطًا بتحديات التنفيذ، إلا أن الأرقام تشير إلى أن هناك رهانًا واضحًا على الإصلاح الإداري العميق، لا فقط على تعظيم الإيرادات.

ما فعله كوجك -منذ أن كان نائبا لوزير المالية-، كان في جوهره، محاولة لصناعة تحول تدريجي دون كسر التوازنات القائمة، فقد لا تكون هذه الإصلاحات قد حققت قفزة نوعية في العدالة الضريبية، لكنها مثّلت تحولًا في فلسفة إدارة النظام نفسه من الجباية المفاجئة إلى التنظيم المؤسسي.

يبقى الرهان الحقيقي هو ما إذا كانت التحولات الرقمية والمقاربات المؤسسية قادرة على تجاوز الطابع الجبائي للضريبة، وتحويلها إلى أداة فعالة لإنتاج العدالة التنموية، لا مجرد أداة تحصيل.. فالضريبة ليست هي العدو كما ذكرت سابقا، لكن العدو هو غياب الإصلاح المؤسسي الذي لا بد أن يرتبط باقتصاد حقيقي منتج لأنه كما أن الدولة التي لا تُنتج تعيش على الريع، فإن الدولة التي لا تُصلح.. تحيا على الترقب.