قناة السويس التجاهل أشرف من التوضيح
أثار دونالد ترامب الرئيس الأمريكي جدلًا واسعًا بتصريحه الأخير الذي طالب فيه بمرور السفن الأمريكية عبر قناة السويس مجانًا مدعيًا أن لأمريكا الفضل في وجود هذا الشريان الملاحي العالمي في واحدة من أغرب محاولات إعادة كتابة وتزييف التاريخ الحديث.
بعيدًا عن الصخب السياسي، يستدعي التصريح وقفة أمام حقائق التاريخ لا تتجمل فقناة السويس لم تُبْنَ لا بأموال أمريكية ولا بأذرع أمريكية والتي افتُتحت عام 1869 كانت نتاجًا لجهد بشري مصري خالص حُفرت بسواعد المصريين الذين دُفعوا دفعًا للعمل فيها في واحدة من أضخم وأصعب مشروعات الحفر اليدوي في التاريخ.
وقت أن كانت مصر تشق طريقها إلى العالمية من خلال هذا المشروع العملاق كانت الولايات المتحدة تعيش واحدة من أظلم لحظاتها الحرب الأهلية التي دارت بين الشمال والجنوب من 1861 إلى 1865، وهي الفترة نفسها التي شهدت ذروة أعمال الحفر في القناة كانت أمريكا وقتها تحاول أن تعيد لُحمتها الداخلية بينما كانت مصر تصنع مجدًا إنسانيًا وهندسيًا سيُخلّد لعقود أما عن عبارة ترامب الشهيرة “لولا أمريكا لما وُجدت قناة السويس”، فيبدو أنه قرر أن يمنح بلاده دورًا بطوليًا بأثر رجعي في مشروع لم تسمع به أمريكا إلا بعد افتتاحه بسنوات.
في علم السياسة والدبلوماسية يُقال إن “عدم الرد أحيانًا هو الرد” فبعض التصريحات لا تستحق حتى أن تُكرَّس لها البيانات حفاظًا على هيبة التاريخ ووزن الدولة وعدم منح التفاهات ما يفوق قدرها من الضوء، وتبقى مصر بتاريخها العريق وصبرها الطويل قادرة على التفريق بين التصريحات العابرة والمواقف الراسخة.
ويبقى أن قناة السويس ليست مجرد ممر مائي بل رمز سيادة وكرامة وطن وهي لا تُمنح امتيازًا ولا تُدار بمنطق الفاتورة المؤجلة فمن حفرها بيديه وحررها بإرادته لا ينتظر إذنًا من أحد ولا يرد على كل من تاه في فصول التاريخ.