هل يعزز الذكاء الاصطناعي الإبداع أم يُشكّل تهديدًا للمبدعين؟

هل يعزز الذكاء الاصطناعي الإبداع أم يُشكّل تهديدًا للمبدعين؟

يشهد العالم اليوم تحولاً متسارعاً في علاقة الإنسان بالإنتاج المعرفي، مع صعود الذكاء الاصطناعي كأداة تتجاوز التقنية التقليدية إلى مجالات تعتبر حكراً على العقل البشري، وفي مقدمتها الأعمال الإبداعية بمختلف صورها.
هذا الصعود لم يجعل الذكاء الاصطناعي محصوراً في تحليل البيانات أو تسهيل المهام التقنية، بل امتد إلى كتابة الرواية والشعر، وإنشاء الأعمال الفنية، ما يثير جدلاً واسعاً حول طبيعة هذه الأعمال، وما إذا كان يحق لها أن تحمل صفة «الإبداع»!
«الشرق» تطرح الظاهرة للنقاش على مائدة المبدعين، حيث اختلفوا حيالها، فهناك من يرى أن الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقاً جديدة أمام المبدعين، ويوفر إمكانات تقنية تسهم في تطوير أساليبهم، فيما رأى آخرون أن الاعتماد على أنظمة ذكية في إنتاج الأعمال الإبداعية يقوض مفاهيم جوهرية مثل الأصالة، والملكية الفكرية، والتجربة الإنسانية ذاتها، بل ويطرح تحديات أخرى عديدة.

– د. زكية مال الله: الاعتماد المفرط على التكنولوجيا يهدد الإبداع
تصف الشاعرة والكاتبة د. زكية مال الله العيسى، الذكاء الاصطناعي بأنه من أهم التقنيات الحديثة التي تسهم في التطور السريع وزيادة فرص الابتكار والنمو في محتلف المجالات، كما أن تطبيقاته المختلفة تؤدي الى رفع مستوى الجودة وزيادة الامكانات، وكفاءة الأعمال، وتحسين جودة الحياة والانتاجية بشكل كبير.

وترجع تسمية الذكاء الاصطناعي بهذا الاسم، إلى استخدامه لوصف الأنظمة التي تحاكي القدرات البشرية، كما أن الكلمة تعني محاكاة أو تقليد لشيء طبيعي، لافتة إلى أن «جون مكارني» أحد الآباء المؤسسين للذكاء البشري، هو الذي صاغ هذا المصطلح عام 1955.
وتقول د. زكية مال الله، الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية في مجال الشعر في دورتها السادسة، إنه لكون الابداع البشري انعكاسا للتجربة الفرديه والجماعية بالاستناد إلى الخيال والثقافة والمشاعر، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون امتداداً لأدوات الإنسان، ليساعده على اكتشاف طرق جديدة للتعبير والإبداع، ويعيد تعريف العلاقة بين المبدع وأدواته، وإعادة اكتشاف حدود الابداع ذاتها.

وتتابع: مثل هذه التطبيقات وفرت برامج للفنانين والمصممين بإمكانات هائلة، من أشكال مميزة يصعب ابتكارها يدوياً وكذلك في عالم الكتابة تمكنت منصات GPT من تطوير أفكار الكُتَّاب وكتابة المسودات التي تسهل عملية الإبداع.
وتخلص في هذا السياق إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن المبدعين من تجاوز قيودهم التوليدية وتطوير مهاراتهم الإبداعية، بالإضافة إلى مميزاته في صناعة المحتوى والسرعة، نتيجة لتعدد الأدوات وتنوع قدراتها في مجال الكتابة والتصميم والتصوير، ما يجعله شريكاً في عملية الإبداع، ولا يلغي دور المبدع، بل يعيد تعريفه.

وتحذر من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا، حتى لا يشكل ذلك تهديداً للإبداع وتهميشاً للمبدعين التقليديين الذين لا يملكون القدرة على مواكبة هذه التقنيات، كما أنه في ظل التحرر من قيود الحس والذوق الثقافي والانفصال عن الطبيعة والابتعاد عن التراث، فإن ذا الحظ العليل يستطيع أن ينجز من الأعمال الفنية في ساعة واحدة ما ينجزه الفنان المقتدر في سنة، وبالتالي يتحول الإبداع الفني إلى تطبيقات رقمية، ويخرجه من دائرة الابتكار الثقافي، ويجعله عُرضة لتأثير كلمات وصور عابرة، ليس لها أصل ولا قرار ولا ملكية فكرية، وهذا ما يتسبب في ضعف المهارات الإبداعية البشرية في الفنون والآداب، وتقليل كفاءات الباحثين ومهاراتهم في التحليل والتفكير النقدي والإبداعي.

– حمد التميمي: أستعمل الذكاء الاصطناعي في أعمالي بدون خجل
يوضح الكاتب حمد التميمي أن المثقف يقف اليوم أمام تحول تكنولوجي غير مسبوق يتمثل في تقنية الذكاء الاصطناعي، التي فرضت نفسها على الساحة الثقافية والإبداعية، وأن هذا التطور يثير جدلاً واسعاً حول تأثيره على الإبداع البشري، فمن جهة، يخشى البعض أن يؤدي استخدامه إلى تنميط الإنتاج الإبداعي وسلب خصوصيته، بينما يرى آخرون أنه أداة قوية تثري التجربة الإبداعية.
ويقول: إنه يمكن للمثقف الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة، كالبحث وجمع المعلومات وتحليلها وتوليد أفكار أولية، وتحسين النصوص وتجاوز حواجز اللغة لنشر الإنتاج الثقافي عالمياً. لكن لكي يكون توظيفه مثمراً، يجب الاحتفاظ بالبصمة الشخصية في العمل الإبداعي، واستخدامه كأداة مساعدة وليس بديلاً، والتحلي بالشفافية حول مدى استخدامه، والمراجعة النقدية للمخرجات الآلية. 

ويرى أن الذكاء الاصطناعي ليس عدواً للإبداع بل أداة يمكن توظيفها بحكمة، وأن التحدي يكمن في إيجاد توازن بين الإمكانيات التكنولوجية والروح الإنسانية التي تظل جوهر الإبداع، فالمثقف الواعي هو من يستطيع الاستفادة من إمكانياته مع الحفاظ على أصالة صوته وخصوصية رؤيته، دون الانزلاق نحو الاعتماد الكلي على الآلة أو رفضها تماماً.  ويقول: إنه يستعمل الذكاء الاصطناعي في أعماله الأدبية بدون خجل أو استحياء، ويرى في هذه التقنية أداة قوية تساعده على استكشاف آفاق إبداعية جديدة وتحسين إنتاجه الفكري، ولا يجد حرجاً في الاستعانة بهذه الأداة العصرية، بل يعتبرها امتداداً لقدراته الإبداعية وتطويراً لها، ويؤمن بأن المبدع الواعي هو من يستطيع توظيف التكنولوجيا لخدمة رؤيته، والحفاظ على بصمته الشخصية، ولذلك يستخدم الذكاء الاصطناعي كشريك إبداعي يساعده على تجاوز عقبات الكتابة، وتنظيم أفكاره، واستكشاف خيارات لغوية متنوعة، دون أن يأخذ مكانه كمبدع أصيل.
 

– فوزية أحمد: استخدامه بوعي يحفز الإبداع
تؤكد الكاتبة فوزية أحمد أنه مع تغير نمط وروتين الحياة في العصر الحديث، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة لا غنى عنه، يسهّل التعليم ويسرّع من إنجاز المهام، ويفتح آفاقاً جديدة للإبداع والتعبير، ولكن يحتاج إلى وعي وحذر عند استخدامه، بما يجعل الذكاء الاصطناعي لا يلغي دور العقل البشري، بل يوسّع آفاقه ومداركه، ويمنح الكاتب صدى أعمق لأفكاره.
وتقول: إن تجاهل الذكاء الصناعي يعني إنكار التطور، واستخدامه بحكمة، دلالة على وعي المثقف بأن الفكر لا يتوقف، والكلمة الحيّة تبحث دائمًا عن فضاءات جديدة للتجدد والتعبير، وكذلك الفكر بحاجة إلى نوافذ جديدة يرى بها العالم.

وتضيف أن الإفراط في الاعتماد عليه يفقد العمل جودته ويضعف الإمكانيات والطاقة الإبداعية وقد يؤدي لضمور الإحساس، ومخرجات اللغة التي ينتجها الذكاء الصناعي تميل عادة للتكرار والتقليل من تميز الأسلوب، ومع ذلك، فإن استخدامه بوعي يمكن أن يكون محفزًا للإبداع ومصدرًا للإلهام الفكري والتعبيري، شريطة أن يوظف كأداة تعزز الفكر لا أن تحل محله، في شراكة ذكية تحفظ البصمة الإبداعية ولا تمحوها. وتتابع: إن الذكاء الاصطناعي يعتبر أداة قوية يمكن أن تساعد الكتّاب والمفكرين في تطوير أفكارهم وتسريع أعمالهم، بتقديم اقتراحات، وتحليل معلومات، وتسهيل الكتابة، كما يساهم في فتح المجال أمام أشخاص لم تكن لديهم من قبل فرصة التعبير أو النشر، ومع ذلك، فإن الاعتماد الزائد على هذه التقنية قد يضعف الجانب الإبداعي الحقيقي، ويجعل الأعمال متشابهة أو سطحية، لأنها تعتمد على أنماط سابقة.

وتلفت إلى أن هذه الأدوات تثير أسئلة مهمة حول ماهية المؤلف الحقيقي، وقيمة العمل إن لم يكن نابعًا من جهد شخصي وفكر إنساني، لذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مفيدًا إذا استُخدم كأداة مساعدة، وليس كبديل عن التفكير والخيال والإبداع الشخصي. وتقول: إن الذكاء الاصطناعي أصبح صديقاً جديدًا للمثقفين المبدعين، ولا يلغي خيالهم بل يفتح لهم آفاقاً أوسع، لذلك هو أداة تثري الإبداع إذا استمر الإنسان في قيادتها، لأن المعنى الحقيقي يصنعه الإنسان بفكر وروح نابض، لافتة إلى أن الذكاء الاصطناعي، رغم قدراته المتقدمة، فهو يبدع بالأدوات وليس بالمشاعر، ولا يستطيع أن يبدع من ذاته، كونه يفتقر للتجارب وليس لديه القدرة أن يعكس تجارب مبتكرة من وحي الذات، لذا يبقى الإنسان أساس وأصل الإبداع الحقيقي بكل معانيه.

– د. عمار رياض: الذكاء الاصطناعي في قبضة المثقف
يقول د. عمار رياض، خبير في الذكاء الاصطناعي، إن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءاً من المشهد الإبداعي، وأثره على المثقف لايمكن تجاهله، ومع تطور قدراته في تحليل النصوص، وإنتاجها، وتوليد الصور والأفكار، بات يشكل تحدياً وفرصة في آنٍ واحد أمام المثقف المعاصر، غير أن المسألة لا تكمن في وجود التقنية ذاتها، بل في كيفية توظيفها.
ويتساءل: هل يهدد الذكاء الاصطناعي الحالة الإبداعية؟ ويجيب بأن ذلك يتوقف على طريقة استخدامه، «فإذا اعتمد المبدع عليه كلياً في إنتاج المحتوى، فإنه قد يُفرغ العمل من خصوصيته الإنسانية، ويحوله إلى نسخة مكررة بلا روح، أما إذا استُخدم كأداة داعمة تساعد المبدع على تجاوز العقبات اللغوية أو توليد أفكار أولية، فقد يكون محفزاً للخيال، لا قاتلاً له».

ويقول: إن الإبداع في جوهره تجربة بشرية نابعة من الشعور والوعي والسياق، وهي عناصر لا يمكن للآلة، مهما تطورت، أن تحاكيها بشكل أصيل، كما أن الذكاء الاصطناعي لا يبتكر من فراغ، بل يعيد تركيب ما تعلمه، ويقترح أنماطاً مبنية على معطيات سابقة، أما المثقف، فيملك القدرة على الاختراق، والذهاب إلى ما هو أعمق من السائد. 
ويخلص إلى أن المثقف القادر على توظيف الذكاء الاصطناعي بذكاء، سيضاعف أدواته الإبداعية دون أن يفقد فرادته، لذلك فالذكاء الاصطناعي لا يُلغي دور المبدع، بل يدفعه إلى تطوير أدواته وتوسيع وعيه، وهو أشبه بعدسة مكبرة تتيح له رؤية أوسع.
ويدعو المثقف إلى التعامل مع الذكاء الاصطناعي كمساعد بحثي ذكي، يساعده على استكشاف مصادر معرفية متنوعة بلغة مكثفة وفعّالة، ويعرض عليه وجهات نظر متعددة حول الموضوعات التي يكتب فيها، وعدم جعل الذكاء الاصطناعي بديلاً عن الجهد الفكري، بل وسيلة لتوسيع رؤية المثقف وتعميقها، وأن المثقف الواعي هو من يُساءل الأداة، لا من يكتفي بإجاباتها، ويظل يقظاً لما يُقدَّم له، يضيف لمساته الخاصة، ويحوّل كل معلومة إلى مادة تعبّر عنه بصدق وأصالة.

– سهام جاسم: جودة الأعمال تبدأ من الإنسان وليس من الآلة
تعتبر الكاتبة سهام جاسم، الحالة الإبداعية بأنها حالة إنسانية صرفة تنبع من أعماق روح الإنسان ومن مدى شفافيتها ورقتها التي اختزلت أثر تلك التجارب والخبرات على مر الزمن لتخطها أو ترسمها أو تبوح بها بفن نقي راقٍ وأصيل.
وتقول: إن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية سيجعلنا نتساءل: ما الذي تبقى من الإنسان إذن إذا كان سيبحث لدى الآلة عمّا ينبغي عليه ترجمته من أفكار وأحاسيس ورؤى وإذا ما كان سيستنطقها ليقتبس منها جملةً من القول أو يتخذها مُلهمة؟
وتقول: إنه سيكون من الإنصاف إذن كتابة اسم التطبيق الذي استعان به المبدع بالقرب من اسمه على نتاجه أياً كان لحفظ الحقوق، وحتى لا نكون على شيء من التطرف في الحكم فالذكاء الاصطناعي إذا استُخدم كأداة بحث إلكترونية عن مصادر ومراجع قد يخدم المثقف في هذا الجانب لاجتياز شيء يسير من طريق البحث لا كله، ويبقى للجُهد الإنساني المبذول ما يمتاز به عليه بل ويفوقه في البحث خارج إطار التقنية عما يريد الوصول إليه.
وتشدد على ضرورة ألا يتقاطع استخدام الذكاء الاصطناعي فيما هو من خصائص الإنسان، فالإبداع والفن لن يجدا ذلك الانعكاس المؤثر في المُتلقي إذا انبعثا من آلة مُبرمجة عديمة الروح لأنها ستملي قالباً بارداً محدود الأُفق ومزيجاً غريباً من الفن المستنسخ وستطفق تردده جواباً ـ قد يبدو للوهلة الأولى شافياً ـ على كل سائل يستعين بالذكاء الاصطناعي.
وتقول: إذا كنا نبحث عن الجودة فيما يُنتج من أعمال إبداعية، فالذكاء الاصطناعي لا أظنه يصلح كنطاق للبحث عن ذلك لديه، فالبحث عن الجودة في الأعمال يبدأ من الإنسان نفسه لا من الآلة ومن ارتقاء فكره وإحساسه وفنه وأصالة موهبته والتجويد فيها لا يتأتى إلا من صدق التجربة والخبرة وسعة الاطلاع والقراءة العميقة في شتى الحقول المعرفية.