ما تفسير تخصيص قطعة أرض في البحر الأحمر لصالح وزارة المالية؟

ما تفسير تخصيص قطعة أرض في البحر الأحمر لصالح وزارة المالية؟

نشرت الجريدة الرسمية في العدد 23 تابع “أ” الصادر في 4 يونيو 2025، قرار رئيس الجمهورية رقم 303 لسنة 2025، الخاص بتخصيص قطعة أرض بمساحة تبلغ حوالي 41،515.55 فدانًا (أي ما يعادل نحو 174،399،900 متر مربع) في محافظة البحر الأحمر لصالح وزارة المالية.جاء هذا القرار ضمن سلسلة إجراءات قانونية وتنظيمية شاملة، يستند إلى عدد من القوانين والدساتير التي تنظم ملكية واستغلال أراضي الدولة، بالإضافة إلى القوانين المنظمة للأدوات المالية الإسلامية، وبخاصة الصكوك السيادية.

الإطار القانوني والتنظيمي للقرار

جاء القرار مستندا إلى نصوص دستورية وقوانين متنوعة منها: قانون تنظيم الشهر العقاري، قانون الهيئات العامة، قانون الإدارة المحلية، قوانين الأراضي الصحراوية وأملاك الدولة، إضافة إلى قانون البيئة، وقانون الموارد المائية والري، وقرارات رئيس الجمهورية المتعلقة بتحديد المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية، كما استند إلى قانون الصكوك السيادية الصادر بالقانون رقم 138 لسنة 2021، وهو القانون الذي ينظم إصدار هذه الأدوات التمويلية الجديدة.وبحسب القرار، تحتفظ القوات المسلحة بملكية الأراضي الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية ضمن نفس المساحة، ما يؤكد أن القرار لم يشمل أي تفريط في هذه الأراضي الحيوية.

ماهية القرار: تخصيص وليس بيعًا

القرار يقضي بتخصيص الأرض لصالح وزارة المالية بهدف استخدامها في إصدار الصكوك السيادية، وهو ما أثار جدلًا في بعض الأوساط على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تم ترويج معلومات مغلوطة بأن الأرض تم بيعها أو تم التفريط فيها، لكن من منظور قانوني ومالي دقيق، فإن التخصيص لا يعني بيعا ولا تفريطا في الملكية، وإنما هو إجراء إداري يتيح لوزارة المالية استخدام هذه الأصول كضمان أو أصل مالي لإصدار صكوك سيادية وفقًا للأطر القانونية والتنظيمية المعتمدة.

الصكوك السيادية: أداة تمويلية مبتكرة ومتوافقة مع الشريعة

الصكوك السيادية تمثل نوعا جديدا من أدوات التمويل التي تعتمد على أصول حقيقية، وتختلف عن السندات التقليدية التي تعتمد على الدين والفائدة، وهو ما يجعلها متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية التي تحظر الربا وبموجب هذا النظام، يتم منح المستثمرين حق الانتفاع أو استغلال الأصول لفترة محددة، مقابل تحقيق عوائد مالية مستدامة، ثم تعود ملكية الأصول بالكامل للدولة عند انتهاء فترة الصك.هذا النموذج المالي، كما أوضح الخبراء، يحول الأصول غير المستغلة إلى مصادر دخل مستدامة تدعم المالية العامة، دون أن تفقد الدولة سيادتها عليها أو تتنازل عن ملكيتها.

آراء الخبراء: دعم اقتصادي وتمويلي متوازن

تحدثت “الدستور” مع عدد من كبار الخبراء الاقتصاديين والمصرفيين الذين أجمعوا على أن القرار خطوة استراتيجية ذكية تنم عن تغيير جذري في الفكر الاقتصادي والتمويلي للدولة المصرية، وتعكس حرص الحكومة على تنويع مصادر التمويل بعيدًا عن القروض التقليدية ذات الفوائد المرتفعة التي تثقل كاهل الموازنة.وقال د.محمد باغة، أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة قناة السويس، إن الصكوك السيادية أداة مالية مبتكرة تتيح للدولة الاستفادة من أصولها من دون تفريط، حيث يُمنح المستثمر حق الانتفاع المؤقت فقط، مما يحافظ على ملكية الدولة ويحمي الأصول الوطنية. وأكد أن تخصيص الأرض لصالح وزارة المالية يمثل نموذجًا تطبيقيًا عمليًا لهذا التوجه.وأشار الخبير المصرفي محمد عبد العال إلى أن هذا القرار يعكس فهمًا عميقًا لآليات التمويل الإسلامي الحديثة، التي تجعل من الصكوك أداة أكثر أمانًا وجاذبية، حيث لا تمثل ديونًا على الدولة بل شراكة في الأصول والعوائد.من جانبه، وصف الدكتور عبد المنعم السيد، رئيس مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، الصكوك الإسلامية بأنها أداة تمويلية فعالة تتماشى مع مبادئ الشريعة وتدعم جذب الاستثمارات، خصوصًا من الأسواق التي تفضل التمويل الإسلامي، مؤكدًا أن نجاح مصر في إصدار الصكوك منذ 2023 يعكس ثقة متزايدة في الاقتصاد المصري.أكد الدكتور محمد سعد الدين، نائب رئيس الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين، أن تخصيص الأرض ليس تفريطًا بل تعظيم للاستفادة منها وتحويلها إلى أدوات تمويلية مستدامة تدعم خفض الدين العام وتحسين الملاءة المالية للدولة، مشيرًا إلى أن الصكوك توفر آليات تمويل أكثر استقرارًا مقارنة بالديون التقليدية.

أهمية القرار في دعم الاقتصاد المصري

يأتي القرار في سياق مواجهة الدولة لتحديات مالية واقتصادية كبيرة، أبرزها ارتفاع الدين العام والضغط على الميزانية، وهو ما استدعى البحث عن أدوات تمويل بديلة ومستدامة وأثبتت الصكوك السيادية قدرتها على توفير تمويل طويل الأجل بمعدلات تكلفة أقل، دون المساس بسيادة الدولة على أصولها.كما أن استغلال الأراضي في مشروعات تنموية أو تأجيرها من خلال الصكوك يخلق فرص عمل جديدة، ويسهم في دفع عجلة التنمية في منطقة البحر الأحمر التي تتمتع بموقع استراتيجي هام.

دور الصكوك في تنويع مصادر التمويل

تتنوع الأدوات المالية التي تلجأ إليها الدول لتمويل مشروعاتها، إلا أن الصكوك السيادية تبرز كخيار متميز في الأسواق التي تهتم بالتمويل الإسلامي. حيث تسمح هذه الصكوك بإصدار أدوات مالية ترتبط بأصول حقيقية تحقق أرباحًا حقيقية للمستثمرين، بدلًا من مجرد الفائدة الثابتة.كما تساعد هذه الصكوك في جذب رؤوس أموال جديدة من الأسواق الخليجية والأسواق الآسيوية وغيرها، ما يعزز من مكانة مصر في الأسواق المالية العالمية.

التوجه نحو استثمار الأصول وتحقيق التنمية المستدامة

القرار يعكس تحولًا في إدارة الأصول الحكومية، حيث تحولت الأراضي التي قد تكون غير مستغلة أو غير منتجة إلى أدوات تمويل واستثمار فعالة. هذا النموذج يوفر إيرادات مستدامة تسهم في خفض عجز الموازنة وخدمة الدين العام، إضافة إلى دعم تنفيذ المشروعات القومية التنموية.كما يضمن القرار وجود آلية واضحة وشفافة لاستخدام الأصول، عبر الموافقات الحكومية والتنظيمية ما يعزز من ثقة المستثمرين المحليين والدوليين.

توقعات مستقبلية

قرار تخصيص الأرض لصالح وزارة المالية لا يعد تفريطًا في أصول الدولة، بل هو خطوة استراتيجية نحو تحسين هيكل التمويل الحكومي، وتقليل الاعتماد على القروض التقليدية، وتعزيز سوق التمويل الإسلامي في مصر.إن نجاح هذا النموذج وفعاليته على أرض الواقع سيحفز المزيد من الطروحات للصكوك السيادية، وسيسهم في بناء سوق مالية متقدمة تجذب الاستثمارات وتحسن الاستقرار المالي والاقتصادي لمصر على المدى الطويل.كما أن هذا التوجه يعزز من ثقة المستثمرين المحليين والدوليين في قدرة مصر على إدارة أصولها بكفاءة وتحويلها إلى أدوات تمويل تنموية تحقق عوائد مستدامة دون المساس بالملكية السيادية.