انهزام الشرق ونجاة مصر!.. هل من واجب الحكومات توجيه الشعوب نحو الرفعة؟!

الشعوب.. الحكومات.. المؤسسات الدينية، هؤلاء هم رءوس المثلث التى مثلت العلاقات بينهم- عبر العصور المختلفة- واحدة من أهم مفردات علوم الاجتماع والسياسة وأكثرها وضوحًا أحيانًا، وغموضًا أحيانًا أكثر. وفى كل أحوالها تميزت هذه العلاقات بأنها الأكثر إثارة وحيوية، وتحوى فى طياتها كثيرًا من أسرار الأحداث التاريخية. تتساوى فى هذه الإثارة والأهمية دول العالم، قديمًا وحديثًا.
فى بعض مناطق العالم مرت هذه العلاقات فى مطلع العصور الحديثة بمواجهات درامية نتج عنها حدوث تغييرات كبرى على مساحات نفوذ كل من رأسى المثلث الثانى والثالث- الحكومات والمؤسسات الدينية- بينما استمرت فى مناطق ودول أخرى- فى الشرق الأوسط كمثال- مساحات النفوذ كما هى فيما يشبه تفاهمات غير مباشرة.
سؤالٌ جوهرى يمكنه أن يكون مدخلًا منطقيًا لمحاولة الاقتراب من هذه العلاقات المتشابكة..وهو سؤالٌ عام موحد لم يفقد مضمونه وأهميته عبر كل العصور وفى كل الديانات.. هل تنشغل الحكومات حقًا فى جميع ما تقوم به من ممارسات وما تتخذه من قرارات وما تخوضه من مواجهات بهدف قيادة الشعوب للملكوت أو الفردوس أو الخلود الأبدى؟! أى هل هذه هى غايات الحكومات وشغلها الشاغل فيما تقوم به من إجراءات وما تتخذه من قرارات ذات طبيعة دينية؟!
من قراءة التاريخ منذ العصور القديمة فى مناطق متفرقة من العالم، ومن قراءة ما حدث فى العقود الأخيرة من تفاهمات ومواءمات فى بعض دول الشرق الأوسط، يمكن تقديم ثلاث إجابات موجزة، أو إجابة متشعبة إلى ثلاثة نماذج أو صيغ لم تخرج عنها غايات الحكومات فى أى عصر صبّتْ خلاله اهتمامها وجهدها صوب فكرة الدين ورجاله ومؤسساته.
النموذج الأول هو الأكثر وضوحًا وتقليدية ويمكن وصفه بالشره الصريح للهيمنة على مساحات النفوذ التى وجد الحكام أن رجال الدين قد حصلوا عليها بالفعل، سواء نفوذًا روحيًا مسيطرًا على الشعوب، أو نفوذًا وثراءً ماديًا وممتلكات وضعت فى أيدى رجال الدين فأصبحوا ينافسون الأباطرة والملوك فى الثراء والسيطرة والتحكم. وإذا اخترنا مثالًا قويًا لهذا النموذج، فسوف يكون قطعًا هو النموذج الرومانى البيزنطى فى العقود الأربعة الأولى من تاريخ المسيحية.
مئات الموسوعات التاريخية تضج بآلاف الوثائق عن نفوذ بابوات الكنائس الكبرى وصراعاتهم- التى تفجر بعضها فى البدء على أسس دينية- وحسد الأباطرة لهؤلاء البابوات على ما بين أيديهم من ثروات وأساطيل تجارية بحرية ونفوذ على الجماهير وبعض ما كانوا يملكونه من مظاهر أبهة ومواكب يتحركون بها، وأحيانًا نفوذ على آلاف الرهبان الذين شكلوا فى مرحلة من المراحل ما يقرب إلى جيوش غير رسمية يحركها البابوات، أو بودى جاردات يسافرون مع أحدهم لإلقاء الرهبة فى نفوذ منافسيه.
فى ظلال هذه المشاهد تحول الأباطرة إلى المسيحية ونازعوا البابوات فى مساحات النفوذ ومفردات الثروة والسيطرة.
وقطعًا فكرة حرص الأباطرة على قيادة شعوب الإمبراطورية للملكوت لم تكن بأى شكل تخطر على بال هؤلاء الأباطرة.
كان طمعًا صريحًا فيما بين أيدى البابوات من نفوذ مالى وروحى وسياسى، وعلى الرغم من أن الإمبراطورية لم تكن فى حاجة إلى شرعية حكم دينى مسيحى لأنها كانت راسخة فى أسس النظم والإدارة والحكم، وأن هؤلاء الأباطرة هم من صاغوا مصطلح «لا دولة داخل الدولة» رفضًا لنفوذ الكنائس- رغم ذلك فلقد أغرى الأباطرة نموذج الحكم الذى يجمله بريق النفوذ الدينى.
أما النموذج الثانى فمثاله الأقوى على الإطلاق هو الخلافة الإسلامية.
هذا النموذج من الحكم قام فى أساسه الأول على فكرة دينية منحت حكامه الشرعية، وشكلت أسس كل القوانين، وكانت هى السوط الحقيقى الذى تخضع له الشعوب طائعة.
لقد مثل الدين لهذا النموذج من الحكم أداة صريحة لتطويع الشعوب وقيادتها، لأن فكرة وجود قوانين أخرى سابقة أو حضارة حكم وإدارة سابقة لم تكن حاضرة هنا، لأنه باختصار لم تكن هناك دولة واحدة للعرب قبل الإسلام لها حدود ونظم إدارة، وكان الإسلام أداة الشرعية الوحيدة التى يمتلكها الحكام لاستمرارهم فى الحكم. استمر هذا حتى بعد السيطرة على البلاد ذات الحضارات وأسس الحكم، فكان الحصول على ثمار هذه الحضارات بقوة السلاح تكريسًا لنفس الشرعية الدينية، وكان ذلك من شأنه تحقيق الرخاء للدولة وتحقيق طاعة مطلقة للحكام. وأيضًا لم يكن حاضرًا هنا فكرة حرص الحكام على قيادة الشعوب للفردوس أو الجنة لأن الممارسات الشخصية والأخلاقية لكثير من الحكام كانت بعيدة تمامًا عن النموذج الدينى الذى يروجونه بين رعاياهم، ما يعنى عدم قناعاتهم الشخصية وعدم يقينهم بمضمون هذا النموذج، وأن الأمر لم يكن أكثر من إحكام السيطرة على الشعوب.
أما النموذج الثالث، فهو أقرب لما حدث فى العصور الحديثة، حين أصبح هناك مفكرون ومجددون ووسائل نشر وتعلم بات معها من الصعب الاستمرار على منوال هذين النموذجين التقليديين.
يمكن أن يتشعب من هذا النموذج عدة نماذج متباينة، أهمها على الإطلاق نموذجان.
الأول تمثله الحكومات التى سقطت فى الفخ، بينما الثانى تمثله الحكومات حسنة النية التى اعتقدت يقينًا أن قيامها بمنح أهمية كبرى للتمسك بتعاليم الديانات الأخلاقية قد يكون أحد الحلول الحقيقية للخروج من مشاكل مجتمعية، سلوكية وأخلاقية وأحيانًا سياسية. وهذه الحكومات لم تسقط فى الفخ، إنما سقطت فى أخطاء معرفية وواقعية كبرى.
النموذج الأمثل للفريق الأول فى الشرق الأوسط فى العصر الحديث هو ما حدث أوائل سبعينيات القرن الماضى، حين قرر حكام بعض دول الشرق الأوسط اللعب بالنار معتقدين أنهم قادرون فى أى وقت على إطفائها.
قرروا العودة إلى فكرة العصور الوسطى وتقديم أنفسهم كحكام يستمدون جزءًا من شرعيتهم من منبع دينى، ولكى يفعلوا ذلك على الأرض سلموا أوطانهم لأطياف من قيادات الجماعات الراديكالية التى وجدت فى ذلك فرصة ذهبية للتغلغل والتمدد الجغرافى والفكرى فى هذه الأوطان. قطعًا لا يمكن أن نفكر مثلًا فى أن هؤلاء الحكام حين فعلوا ذلك كانوا مشغولين بمصير مواطنيهم بعد الموت، أو أنهم كانوا حريصين على قيادة هؤلاء المواطنين للفردوس! كانت اتفاقات سياسية بحتة مع أطراف وقوى دولية وإقليمية، ولم يكن الدين سوى مطية سياسية ليس أكثر. لكن هؤلاء الحكام قد سقطوا فى الفخ ولم يستطيعوا النجاة، لا بأنفسهم ولا بأوطانهم.
أما الفريق الثانى من الحكومات الممثلة لهذا النموذج فهم كثيرون وفى دول كثيرة.
هى حكومات مخلصة لأوطانها، وغالبًا أتت للحكم فى لحظات حرجة وورثت عن أسلافها مشاكل سياسية ومجتمعية كبرى، فتحاول هذه الحكومات الاجتهاد والبحث فى ردهات العلوم الإنسانية عن حلول لبعض هذه المشاكل. وهنا فقط تتعرض تلك الحكومات للتغرير بها من بعض أصحاب المصالح الذين يلقون فى طريقها بأفكار وحلول تحوى فى ثناياها تحقيق مصالح هؤلاء، سواءً كانت مصالح مادية مباشرة أو أدبية أو نفوذًا سياسيًا وامتيازات ومكتسبات. وحين يحين وقت بحث هذه الحكومات عن حلول لمشاكل سلوكية أخلاقية، تقفز فورًا بعض القيادات الروحية- مؤيدة بكتابات بعض المفكرين- لإلقاء حلول تحوى منح المؤسسات الدينية ورجالها مساحات نفوذ أوسع. يكون حديثهم مرصعًا ببعض العبارات التى تمثل الغايات التى تبحث عنها الحكومات فيتم بذلك الإغواء والاستمالة. ولأننا لا نتوقع من قيادات الحكومات أن يكونوا مفكرين وباحثين وعلماء دين أو فلاسفة وعلماء اجتماع، فيكون منطقيًا جدًا أن تستقى هذه القيادات معلوماتها ممن تعتبرهم متخصصين. وهؤلاء- إن لم يُواجهوا بيقظة فكرية من نخب الثقافة فى كل دولة- فسوف يستطيعون بكل سهولة إقناع قيادات الحكومات الباحثة عن حلول أخلاقية لبعض المشاكل السلوكية للمجتمع أن هذه الحلول لديهم وحدهم.
فى هذا المشهد تبحث الحكومات حسنة النية بشكل حقيقى عن حلول أخلاقية يكون تأثيرها على الشعوب أقوى من القوانين وفكرة الثواب والعقاب القانونى، أى أنهم يبحثون عن حلول لمشاكل دنيوية وهم غير مهمومين بأن تجد هذه الشعوب طريقها للفردوس أو الجحيم. بينما يبحث من يبادرون بتقديم حلول دينية فقط عن اكتساب مساحات نفوذ أكثر تحت ذريعة القيام بتنفيذ تلك الحلول النظرية.
ونفس السؤال يتطرق إلى المؤسسات الدينية ورجال الدين، أى دين وفى أى عصر.. فى جميع مشاهد الصراع التاريخية بين المؤسسات الدينية ورجالها وبين مؤسسات الحكم، أو بين هذه المؤسسات وبعضها البعض، أو بين هذه المؤسسات وبين المفكرين والمجددين والفلاسفة، هل كان الحرص على قيادة الشعوب للملكوت أو الفردوس محرك تلك الصراعات والمواجهات؟ أى هل كانت هذه الغاية محركة رجال الدين والمؤسسات الدينية فى تلك المواجهات؟ بل- وحتى أكون منصفًا- هل كانت هذه الغاية محرك هؤلاء المفكرين والفلاسفة؟ هل كان هؤلاء حريصين أو مهمومين بمصير الشعوب بعد الموت، وهذا الحرص هو ما دفعهم إلى الوقوف فى مواجهة المؤسسات الدينية ورجالها؟!
أعتقد أنه فيما يخص الفلاسفة والمفكرين والعلماء التطبيقيين كان الأمر أكثر وضوحًا.
فهؤلاء لم يدّعوا أن لديهم مفاتيح هذا الفردوس، أو أنهم يفعلون ما يفعلون من أجل ضمان الخلود فى العالم الآخر لمواطنيهم، لكنهم أنكروا على رجال الدين قولهم بهذه الضمانة! أنكروا على رجال الدين هذا الادعاء وكانت غايتهم تحرير الشعوب من قبضة رجال الدين ومؤسساتهم الدينية.
أما فيما يخص رجال الدين- منذ العصور القديمة حتى الآن- فأعتقد أن المسألة كانت صراعًا دنيويًا خالصًا. فمثلًا قصة الصراع الكنسى الكبير فى القرون الأولى للمسيحية ومحاولة كل كنيسة فرض ما يراه رجالها على الكنائس الأخرى واتهام المخالفين بأنهم هراطقة وخارجون عن صحيح قوانين الإيمان، هذا الصراع ما علاقته بحرص هؤلاء على مصير الشعوب بعد الموت؟! حين نقرأ فصول الصراع البابوى الإمبراطورى بتأمل لا نشعر إلا بصراع صريح على النفوذ والثروة وأحيانًا على الحفاظ على مكتسبات سياسية سابقة لكل جولة من جولات الصراع.
فى النموذج الإسلامى قام رجال دين – فقهاء ومفسرون- بتدشين تعاليم دينية قائمة على القبلية الصريحة، لأنها كانت فى الأساس تدشينًا لصراعات سياسية قبلية. هل كان هذا التيه الفقهى والمذهبى الذى أغرق رجال الدين المسلمين هدفه التأكد أن هؤلاء المسلمين سوف يدخلون الفردوس؟! أم أن الأمر أصبح صنعة ومهنة ونفوذًا وأحيانًا تنفيذًا لأوامر الخلفاء السياسية.
فى حالة ثالثة- تشمل أربعة عشر قرنًا- تختص بقيادات الجماعات الدينية المتطرفة المسلمة والمسيحية، كان كثيرٌ من هؤلاء القادة بالفعل مشغولين بفكرة الخلود فى الملكوت أو الفردوس، لكنهم كانوا مشغولين بخلودهم هم ومصيرهم هم، لا مصير أتباعهم. حين نقرأ ونستمع لمفردات قيادات تلك الجماعات فى العصر الحديث نجد فكرة واحدة حاضرة أن كلًا منهم يريد- حسب علمه الضال- أن يقوم بما يضمن له الجنة. نجد هذا بقوة فى تبريرهم عمليات القتل الجماعية التى كانت تلك الجماعات تقوم بها لاغتيال ساسة فيسقط بين الضحايا مواطنون لا علاقة لهم بالمستهدفين. هم فى البداية لم يكترثوا لذلك، وحين واجههم بعض أتباعهم قالوا دون اهتمام كبير إن هؤلاء سوف يُبعثون على نيتهم!
ما سبق يعنى أن صراعات رجال الدين ومؤسساته، وغالب جهدهم لفرض رؤاهم على أتباعهم لا علاقة له بحرصهم- أى حرص رجال الدين- على مصير هؤلاء الأتباع بعد الموت. وأن الأمر وما فيه أنهم ينتصرون للديانة ذاتها- حسب مفهومهم- ضد الديانات الأخرى كأى إنسان ينتصر لما ينتمى إليه أو ما يملكه. وأحيانًا أخرى يدافعون عن مساحات نفوذهم ومكتسباتهم المادية أو الأدبية من نفوذ وسيطرة روحية قد تصل للتحكم فى الحياة الاجتماعية لبعض الشعوب أو قطاعات منها.
إن هذا السؤال الذى طرحته مرة عن الحكومات، ومرة عن مؤسسات الديانات المختلفة ورجالها، وما يمكن أن تكون له من إجابات هو مساحة ضبابية أو معتمة عند كثيرين. هذه المساحة هى التى كان كل مفكر أو عالم من علوم الاجتماع الإنسانى أو من الفلاسفة يريد أن يقترب منها وأن يزيل ضبابها وأن يطرحها أمام الشعوب. وهى أيضًا المساحة التى يحرص بقوة على بقاء ضبابيتها كل من ينتفع بهذه الضبابية من رجال الدين، أو رجال الحكم الذين يقررون أن يطرزوا عباءات حكمهم بشرائح براقة مما تزدان به عباءات وقفاطين رجال الدين إرضاءً لغوغائيات تم خلقها فى قرون أو عقود سابقة على أيدى رجال دين سابقين! وضعُ هذا السؤال أمام الأفراد، ومنحُ كل إنسان الحرية العقلية للبحث والتأمل عبر سنوات عمره عن إجابات حقيقية نابعة منه، لا إجابات يستقيها من أحدهم، هو ما يمكنه بحق أن يصوغ علاقة أكثر نضجًا ووضوحًا بين الشعوب وبين الحكومات، ثم بين الشعوب وبين مؤسسات الديانات ورجالها.
فيما يخص علاقة الشعوب ورجال الدين ومؤسساته، أقول إن هناك شعوبًا قد سبقت شعوب الشرق فى طرح هذا السؤال على أرض الواقع دون خداع للنفس، وقد وضعتْ لنفسها إجابات حقيقية فى نهايات العصور الوسطى فروضت مساحات المؤسسات الدينية، سياسيًا ومجتمعيًا. نعم لقد بالغت بعض هذه الشعوب فى ردود أفعالها حين صاغت هذه العلاقة من جديد، لكن يمكن أن نتلمس لها الأعذار حين نقرأ ما فعله رجال الدين هؤلاء فى هذه الشعوب فى القرون الماضية، كما أن كل شعب قد كان سلوكه حسب شخصيته التاريخية وموروثاته وأيضًا حجم معاناته.
أما فى دول الشرق، فحتى اليوم لم تتعاط الشعوب بشكل حقيقى مع ذلك السؤال، ولا فكرت فى إجاباته تفكيرًا حقيقيًا. شعوب الشرق استسلمت حتى الآن استسلامًا تامًا لفرض الضبابية على هذا السؤال. وتم إغراقها فى تفاصيل صراعات مذهبية طائفية لا تخص سوى نفوذ رجال الدين. وتم إغراق هذه الشعوب فى مشاعر الخوف الدائم، ليس من الله، ولكن من الخروج من سيطرة المؤسسات الدينية وما تفرضه على كل شعب من مفردات تقنعهم أنها هى فقط الطريق للفردوس. تم إغراق شعوب الشرق فى مشاعر الحاجة الدائمة لرجل الدين والمؤسسة الدينية مهما يكن ما بلغه بعض أفراد هذا الشعب من علم وقدرة على التعلم. الحاجة إلى رجل الدين وليس إلا الله! تهرع قطاعات من كل شعب من شعوب الشرق إلى رجل الدين ليقدم لهم حلولًا مجتمعية وأخلاقية وما يقرب إلى صكوك غفران العصور الوسطى. ما دامت بقيت الشعوب فى هذه الحالة الشعورية بقيت الضبابية وبقى النفوذ الروحى والمادى!
امتلاك أسرار الديانة- فى ديانات بعينها- أو امتلاك العلم والبركة فى ديانات أخرى.. هذه الأفكار هى من تمام أدوات النفوذ لا أكثر ولا أقل. الشعوب الأوروبية لم تمنعها كلمات الأسرار عن صياغة علاقات الشعوب بالمؤسسات الدينية بشكل جديد.
من أدوات النفوذ أيضًا هذه الأكذوبة التى تم ترويجها.. أن أى دعوة لصياغة علاقة جديدة بين الشعوب وبين المؤسسات الدينية دعوة للفجور الأخلاقى، والتحرر من الديانة ذاتها. ويستشهدون فى ذلك بما تموج به الدول الغربية مما يصفونه بأنه إنحلال أخلاقى!
وأنا لا أستطيع أن أمنع دهشتى من قدرتهم على ترويج نقيضين فى ذات اللحظة. فلو أننا مثلًا- بسبب سيطرة المؤسسات الدينية- بعيدون عن الانحراف الأخلاقى، فلماذا الحاجة إلى ما يجرى الآن فى دول بعينها من محاولة منح مساحات نفوذ أكبر لرجال الدين للقيام بالتقويم الأخلاقى؟!
ولو أننا مثلنا مثل الغرب فى الانحراف الأخلاقى، فهذه شهادة بأن بقاء هذا النفوذ الروحى والمجتمعى فى بعض دول الشرق لم يمنع انحرافًا ولم يصن أخلاقًا! وشهادة بأنهم هناك لم يتأثروا أخلاقيًا سلبًا، بل حققوا إنجازات كبرى نتيجة إعادة صياغة تلك العلاقة، بينما ظللنا نحن غارقين فيما نحن فيه.
لو أن ما يروجون له صحيحٌ فماذا عما نضج بالشكوى منه أخلاقيًا فى بعض مجتمعاتنا الشرقية؟ مخدرات وبلطجة، وانحرافات جنسية، ومظالم تضج بها أروقة المحاكم، وانتشار للرشوة والفساد، ومقاومة أى محاولة تقوم بها حكومات جادة لترويض هذا الفساد..؟
أعتقد أن رجال الدين يخوضون معاركهم ليس بغاية أن يقودونا إلى الجنة، بل لتحقيق مآربهم الشخصية أو الانتصار لمذاهبهم الطائفية، وفى أحسن الأحوال عند بعضهم ليجدوا هم لأنفسهم-حسبما يعتقدون- مكانًا فى الفردوس!
أما فيما يخص الحكومات، فطرح السؤال موضوع المقال- هل تنشغل الحكومات حقًا بغاية قيادة الشعوب للفردوس- والبحث عن إجابات حقيقية له سوف يقودونا حتمًا إلى السؤال الأهم..
ما الفردوس الحقيقى الذى تطمح إليه الشعوب ويمثل المهمة الحقيقية للحكومات؟
الفردوس الحقيقى الذى يجب أن تكون غاية أى حكومة هى تحقيقه لشعبها هو فردوس أرضى دنيوى خالص لا علاقة له بما هو بعد الموت. فما بعد الموت هو شأنٌ خاص لكل إنسان، عليه وحده أن يسعى لتحقيقه. أما الفردوس الأرضى فهو واجبٌ على الحكومات أن تعمل على تحقيقه. وهذا الفردوس الأرضى ليس المقصود به أن واجب الحكومات أن تحقق الرفاهية لأفراد كسولين متنطعين، أو أن تجعلهم جميعًا متساوين فيما يملكون من ثروات، لأن الثروات يجب أن تكون نتاج جهد كل فرد.
أما الفردوس الذى يجب أن تلتزم كل حكومة بالعمل على تحقيقه فهو مجموعة من المفردات مثل سيادة القانون على الجميع، توفير الإحساس بالعدل لكل فرد من أفراد الشعب وخلق يقين بالأمان لهذا الفرد. أن يشعر كل فرد بأنه يمكنه الحصول على حقوقه القانونية كاملة بمقتدى بطاقة هويته، دون أن يكون هناك سندٌ آخر لهذه البطاقة من ديانة أو انتماء قبلى أو نفوذ سياسى أو نفوذ الثروة. أن يقتنع كل مسئول تنفيذى بأنه مسئول من المساءلة وليس صاحب سلطة تحول دون تلك المساءلة. هذا الفردوس المفقود فى معظم دول الشرق هو الذى يجعل مواطنًا فى دولة غربية مثلًا واثقًا أن صوته يمكن أن يغير حكومة بحكومة أخرى، وهو الذى يلزم أى مسئول بتقديم سند قانونى لكل ما يملكه، وألا يشعر هذا المسئول بأنه من طبائع الأمور أن يحصل على أشياء دون مقابل. هذا الفردوس الدنيوى الملزم للحكومات بالعمل على تحقيقه يشمل أيضًا قوة إلزام جميع المواطنين بمسئولياتهم أمام القانون. ألا تنافق الحكومة المواطنين حسب أى انتماء وتحت أى ظرف حفاظًا على سيادة الوطن ذاته.
الفردوس الأرضى هو الوطن ذاته، له السيادة الأولى والأخيرة، حيث تتنحى جميع المفردات الأخرى جانبًا، وحيث لا مكان لمواءمات أو أعراف قد تحوى فى وجودها إهدارًا لأسس ذلك الفردوس. هو الفردوس الذى يمكن أن يتشارك فيه الجميع دون تمييز بديانة أو طائفة أو قبيلة أو مهنة.
إن الشعوب التى لا تزال تحتكم لبعض الأعراف التى تشمل ظلمًا لأنثى مثلًا، أو ظلمًا لحقوق مواطن بسبب ديانته أو طبقته الاجتماعية أو قبليته، هى شعوب مازالت بعيدة تمامًا عن الوصول لذلك الفردوس الأرضى المشروع والمستحق.
والحكومات التى تسمح بوجود هذه الأعراف تحت أى راية هى حكومات لا تزال بعيدة كل البعد عن إدراك واجبها الحقيقى. على الحكومات أن تنأى بنفسها تمامًا عن وهم أنها تبحث عن تحقيق الفردوس فى العالم الآخر لشعوبها، لأن ذلك ليس مهمتها، وعليها أن تبحث عن مفردات تحقيق الفردوس الأرضى الواقعى لشعوبها، لأن ذلك هو مهمتها الحقيقية. وإن كانت لديها معضلات سلوكية تريد ضبطها، فالمسألة واضحة بسيطة.. فرض سيادة القوانين على الجميع.. قوانين متفق عليها لا مكان فيها لاستثناء أو مواءمة أو أعراف أو ثغرات تسمح لقوى أو غنى أن يفلت من تطبيقها. تمامًا كما تفعل الدول فى فكرة الردع. القانون بشكله السليم العادل الحاسم هو الرادع وهو الطريق للتقويم الأخلاقى الذى يمكن للحكومات أن تفرضه. فرد الشعب ليس ابنًا للحكومة حتى تحرص على قيامه بالالتزام السلوكى انطلاقًا من نوازع أخلاقية، إنما دورها أن تكون قادرة على إلزامه السلوكى بقوة القانون. كلمات قليلة تفى.. القانون والعدل والحسم.
أما فيما يتعلق بما بعد الموت، فكل فرد- سواءً كان رجل دين أو رجل حكم أو فردًا عاديًا- مسئول عن ذاته. وكل راعٍ مسئولٌ عن رعيته.. هى عبارة تعنى هذا المعنى، تعنى المسئولية فى الدنيا. وانشغال أى حكومة بالهاجس الدينى يعنى أنها فقط تحاول امتطاء هذا الهاجس لأسباب مختلفة ولا يعنى انشغالها بمصائر شعبها بعد الموت، لأن الأولى أن تنشغل بما هى ملزمة به.
لقد خدع الغرب دول الشرق وهزم بعض هذه الدول بسلاح اكتشف فساده من عدة قرون، وتخلص من هذا السلاح بأن وجه فوهته نحو شعوب هذا الشرق. لقد تعلمت دول الغرب سياسيًا، وسارت فى طريق بناء قوتها، بينما أنفقت مليارات على إبقاء شعوب الشرق فى هذا التيه، وعملت على البقاء على الفكرة الشيطانية بتسييس الدين، لأن دول الغرب هذه بعد أن تلظت بالفكرة أدركت سرعة وقوة تدميرها للدول والأوطان فقررت أن يكون هذا هو سلاحها لإبقاء هذا الشرق فى تيه تخلفه وصراعاته العبثية!
السؤال الأخير.. لماذا أكتب هذا المقال الآن؟
لأن واقع شعوب الشرق ودوله فيما يخص هذه القضية كان أحد أهم أسباب هزيمة هذا الشرق فى المواجهة المعاصرة.. عن هذه الهزيمة وكيف ننجو بمصر سوف يكون الجزء الثانى من حديثى.