المنطقة المتوسطة

المنطقة المتوسطة

بعضنا لا إلى الأبيض ولا إلى الأسود، لكنه في المنطقة الرمادية التي بين اللونين الواضحين (الرمادي في معجم اللغة: ما كان بلون الرماد، وهو لون بين الأبيض والأسود، وهو على درجات: فاتح، غامق).
الرمادية قد تعني الوسطية (الانتماء إلى الوسط أي الاعتدال) وقد تعني الحياد (عدم الميل إلى أي طرف من أطراف الخصومة)، غير أن درجتها هي التي تحدد وسطيتها أو حياديتها، المعنى أن  الرمادي يتخذ موقفه من الناس والأشياء، وهو إما يكون موقفا يوافق الطرفين (وسطي) أو يجانبهما (حيادي)، ولو اعتبرنا الرمادية مذهبا، وهي كذلك بالفعل، فإننا نتحير في من جعلوها مذهبا لهم؛ لأنهم لا يبدون واضحين، كما أننا نخسرهم في أحداث كثيرة نود فيها أن يكونوا معنا وإذا مذهبهم يحول بينهم وبين ذلك!
لا أذم الرماديين هنا، ولا أمدحهم أيضا، لكنني أتجول في سوحهم محاولا أن أعرفهم، وأعرف الناس بهم، وقد جرى ما جرى من الأمور، وكانت رماديتهم نافعة، وجرى ما جرى منها وكانت رماديتهم في غاية البؤس بل الخطورة…
أنت تصادم واحدا من الخلق أحيانا، وتحتاج إلى حكم بينكما، تريد فصلا قاطعا في ما كان، لكن تكون مشكلة حقيقية لو حكمك كان رماديا؛ فبينما تنتظر حسما لموضوع المصادمة قد لا يفيدك مثله على الإطلاق لأنه إما اعتبرك وخصمك بمنزلة واحدة، وهذا مزعج، وإما رأى جديدا جعله بعيدا عنكما معا بالرغم من قربه المكاني على الأقل، وهذا مزعج أيضا، وبالبداهة تكون المصيبة أكبر مع الأحداث الأكبر كالحروب والثورات وما إليها… فصاحبنا يكون محاربا مع المحاربين ولا يكون، ويكون ثائرا مع الثائرين ولا يكون، وكم يكون غريبا عن الحرب والثورة، رماديته غالبة، لا أحد يعلم أين هو، وكثيرا لا يعلم هو نفسه أين مكانه المضبوط؟!
للرمادية أسبابها طبعا، من ضمنها عدم الإحاطة الوافية بالقضايا المطروحة، وفقدان الثقة بالنفس، والزهق من الأخذ والرد، واعتبار النتائج متطابقة في جميع الحالات مهما جرى تدخل… إلا أن الرماديين الذين يعتبرون أنفسهم منتصرين لأدمغتهم وناجين بها من صداع المشاركات التي ينادي بها المجتمع من حين إلى 
آخر؛ هم في شقاء ما؛
ذلك أن ما يقع على رؤوس الناس، في نهايات الأمور، يقع على رؤوسهم، ولعل بعضهم يصرخ بينه وبين نفسه: يا ليتني كنت ذا خطوة محددة! 
ربما هم في حالة سلام داخلي، ولو توهما، وربما حمتهم الرمادية من رصاص يتوجه إلى جماعة المنحازين؛ فلكل انحياز أعداؤه الصرحاء، غير أنني لا أتصورهم بلغوا الأمان والسعادة مما أرادوا بلغوهما من طريق “المنطقة الرمادية”…  
يمكن أن يكون الواحد رماديا في وقت قد تخدم فيه الوسطية أو الحيادية موضوعه، إزاء احتكاك سلبي بسيط بين أطفاله مثلا، والأفضل حينها ألا يميز بعضهم على بعض؛ لأن التمييز قد يجعل المشكلة الصغيرة كبيرة (يكون وسطيا)، أو ألا يعطيهم حلولا بل يراقب تصرفاتهم الشخصية ويقيمها، ولو بينه وبين نفسه، فيضاعف من إدراكه لهم وإحساسه بهم (يكون حياديا)، لكنه لا يصح أن يلبس هذا الرداء المبهم إذا تعلقت المسألة بمصائر هؤلاء الأطفال أنفسهم، وما هو أكبر من هذه المصائر بالضرورة.