غزة بدون احتفالات: سكان القطاع يتحدون الموت بالموسيقى والعزف: “لا تزال الأغاني ممكنة”

غزة بدون احتفالات: سكان القطاع يتحدون الموت بالموسيقى والعزف: “لا تزال الأغاني ممكنة”

رغم الأيام المظلمة التى يعيشها أهالى قطاع غزة منذ نحو عامين، جراء حرب الإبادة التى يشنها المحتل الإسرائيلى ضد الفلسطينيين، ما زالت غزة تصدح بالألحان والأغانى الوطنية، التى تنتشر سريعًا فى مخيمات اللجوء ومراكز النزوح، بعد أن أصبحت مصدرًا لغذاء الروح وتحفيز الفلسطينيين على الصمود والاستمرار رغم المعاناة.وكما كانت الموسيقى والغناء من أهم أسلحة المقاومة لدى كثير من الشعوب فى أوقات الحروب والأزمات، فإن الظروف الصعبة التى يعيشها أهالى القطاع جعلت من الموسيقى والألحان والأغانى الوطنية متنفسًا من المعاناة اليومية وأصوات القصف الذى لا يهدأ، ما زاد من إقبال الأهالى عليها، وأسهم فى صنع آلات موسيقية من أدوات مبتكرة، فى ظل عدم توافر الآلات الموسيقية، التى طالها القصف الإسرائيلى، بالإضافة إلى إطلاق العديد من المبادرات لتعليم وتدريب النازحين على المقاومة بالموسيقى والغناء، للتمسك بما تبقى من أهداب الحياة وملامح التحضر والإنسانية.

مديرة «معهد إدوارد سعيد»: جمعنا الآلات من تحت الأنقاض.. وصنعنا الناى من خرطوم المياه

رغم تعرضه للقصف والتدمير، قالت الدكتورة منال عواد، مديرة معهد إدوارد سعيد الوطنى للموسيقى فى غزة، والذى تأسس فى عام ٢٠١٢، أن المعهد ما زال مستمرًا فى عمله حتى اللحظة، رغم حرب الإبادة وتدمير مقره الرئيسى، معتمدًا على ابتكار أساتذته أدوات وآلات موسيقية بسيطة، يصنعون بها ألحانهم وأغانيهم، وينقلون بها إحساسهم إلى أهالى القطاع.وقالت منال عواد، فى تصريحات خاصة لـ«الدستور»: «المعهد موجود ضمن مبانى جمعية الهلال الأحمر بمنطقة تل الهوى فى قطاع غزة، وخلال الأشهر الأولى من الحرب كان مبناه لا يزال قائمًا، لكن القذائف طالت المعهد ودمرت أكثر من ٨٠٪ منه، وطالت معظم الآلات الموسيقية داخله».وأضافت: «رغم الدمار، تم استئناف الأنشطة داخل المعهد مرة أخرى فى يناير ٢٠٢٤، ثم أكملنا المسيرة من خلال المبادرات المختلفة فى مراكز الإيواء ومراكز النزوح، سواءً فى المدارس أو المقرات التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، أو حتى داخل الخيام».وأشارت إلى أنه تم إطلاق العديد من المبادرات من قبل أساتذة الموسيقى فى المعهد فى الأماكن التى نزحوا إليها، وعلى رأسها مواصى خان يونس فى جنوب القطاع، ومنطقة النصيرات فى وسطه، وشمال بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا فى الشمال».وتابعت: «مع كل عملية نزوح جديدة، يصمم فريق المعهد وأساتذته على الاستمرار فى التدرب والغناء، ومع كل منطقة نزوح جديدة هناك فرق تتعلم العزف والغناء».وحول تقبل الأهالى فكرة تعلم الموسيقى والعزف خلال الحرب والقصف والموت، قالت: «كان هذا أحد أهم الأسئلة التى دارت بيننا كفريق عمل وزملاء منذ بداية الحرب، وكانت أول مبادرة لنا فى شهر فبراير ٢٠٢٤، مع الزميل محمد الهباش، مدرس العود، الذى كان يخشى من رد فعل الأهالى عندما يحمل عوده ويذهب لمراكز الإيواء، خاصة أنه يعزف لمن فقدوا كل شىء، حتى منازلهم وأرواح ذويهم، ويعانون من قلة المياه والطعام».وواصلت: «الأهالى فاجأونا جميعًا بحجم التفاعل الكبير، ليس فقط من قبل الأطفال، لكن أيضًا من قبل ذويهم، فقد كانوا عطشى للحياة والفرح، خاصة فى ظل ما يتعرضون له من حرب إبادة».وأكدت أن الحرب خلقت إقبالًا على تعلم الموسيقى والكورال، قائلة: «أنشطتنا لا تتوقف فقط على تعليم الآلات الموسيقية، ولكن هناك أنشطة أخرى مرتبطة بتعليم الغناء من خلال الكورال، وأيضًا تعليم الإيقاع الجماعى، وعزف الآلات المتوافرة فى بعض الأماكن، مثل العود والكمان والجيتار».وأشارت إلى أن الحصول على الآلات فى ظل قصف مقر المعهد ومخازنه كان شديد الصعوبة، مع اضطرار الأساتذة والعازفين للبحث لدى العائلات التى تتوافر لديها آلات موسيقية وترغب فى بيعها، مضيفة: «استغرق الأمر ٤ أشهر للحصول على أول عود، واستغللنا فترة الهدنة فى شراء آلات أخرى، زودنا بها فريق العمل».وذكرت أن مدرب الناى أسامة جحجوح اضطر إلى صنع الناى من أحد خراطيم المياه، بسبب صعوبة توفير آلة ليعزف عليها.واستطردت مديرة معهد الموسيقى فى غزة قائلة: «بعد انتهاك الهدنة من قبل الاحتلال الإسرائيلى، أصبحت طائرات الدراون تحلق فى كل مناطق قطاع غزة لتكون خلفية لموسيقانا، مع تهديدات الإخلاء والنزوح المتكررة، ما جعل من المستحيل توفير الحد الأدنى مما نحتاج إليه لتعليم الموسيقى والكورال».وأردفت: «لا يمكن أيضًا إغفال أن قسمًا من فريق العمل نزح إلى خارج القطاع، ومنه من يعيش فى مصر أو فرنسا حاليًا، ما اضطرنا للاستعانة بموسيقيين وطلاب المعهد المتميزين لتدريب الطلاب الجدد، ومن بينهم الطالب صالح جبر، الذى يدرب حاليًا على آلة العود فى النصيرات، وهناك أيضًا الطالبة سما نجم، التى تعلم آلة الكمان، بالإضافة إلى ١٦ مدربًا وأستاذًا وعازفًا، يعملون فى أماكن الإيواء بثلاثة مراكز بقطاع غزة».ولفتت إلى أن «نظام التعليم بالمعهد يخضع لأكثر من برنامج، من بينها التعليم الأكاديمى التأسيسى للأطفال من سن ٧ إلى ١٤ عامًا، والذى يستمر لمدة عامين، بالإضافة إلى مستوى الشهادة المتوسطة ثم الدبلومة الموسيقية، إلى جانب دراسة البكالوريوس فى الموسيقى، والخاص بطلاب المعهد». 

أحمد أبوعمشة: نعتبر الانفجارات «مؤثرات موسيقية»!

أحمد أبوعمشة، كأوتار جيتاره التى تأبى إلا أن تعزف رغم كل ما حولها من خراب، هو ليس مجرد موسيقى أو مدرس فى معهد إدوارد سعيد الوطنى للموسيقى، والمدرسة الأمريكية الدولية «IAGS»، بل روح تتنفس موسيقى فى قلب العاصفة، بعد أن قرر، وهو النازح من بيت حانون شمال قطاع غزة، أن يحوّل خيمته إلى مسرح صغير يزرع فيه البهجة ويواجه الموت بالأمل.تلقى «أبوعمشة» مكالمة من جيش الاحتلال الإسرائيلى، فى الثالثة فجرًا، تطالبه بإخلاء المنزل خلال ٥ دقائق فقط، فترك كل ما يملكه خلفه، ومضى هو وعائلته، لينزحوا ١٢ مرة خلال أيام، متنقلين من جباليا إلى الشفاء إلى خان يونس ثم رفح.فى رفح، وبين مشاعر الجوع والخوف، صديق له جلب جيتارًا إلى الخيمة، ليبدأ العزف وسط المخيم، ويتجمع الأطفال من حوله، حيث تعلقت عيونهم بالموسيقى كأنها حبل نجاة فى بحر الرعب، وغنوا معه بكل براءة العالم، وفق ما ذكره لـ«الدستور».تواصل «أبوعمشة» بعدها مع «معهد إدوارد سعيد» ليقترح إطلاق نشاطات موسيقية للأطفال النازحين، ولم يتردد المعهد لحظة، وأعطاه الضوء الأخضر، فبدأ بتنفيذ فكرته من رفح، ثم انتقل بها إلى منطقة «المواصى» فى خان يونس، حيث شكّل فريقًا موسيقيًا من معلمين نازحين كانوا على استعداد كامل للانضمام. تحت اسم «GPS» «Gaza Piercing Sound»، وُلد فريق من بين الركام، وغنّى للأطفال الأغانى الوطنية والتراثية، المهمة لم تكن سهلة، فأصوات الانفجارات والطائرات لم تفارق الخلفية أبدًا، لذا «حاولنا تحويل ضجيج الحرب إلى ما يشبه المؤثرات الموسيقية». 

سما نجم:  ابتكرنا طريقة لتمكين طفل مبتورة يده من العزف

وقالت «سما» لـ«الدستور»: «بدلًا من الاستسلام، قررت مع زميلى صالح جبر أن نعلم الأطفال الموسيقى فى غزة، عبر فعاليات مدعومة من المعهد»، مضيفة: «حبينا نحول صوت القصف لصوت أمل».وأفادت بأن الأنشطة لا تستهدف الأطفال فقط، بل كانت مساحة تنفيس جماعية للأهالى أيضًا، الذين وجدوا فيها متنفسًا من ضغوط الحرب اليومية، لتلاقى الفعاليات تفاعلًا كبيرًا وإقبالًا من السكان، الذين اشتاقوا لصوت الفرح.وأضافت أنه خلال تلك اللقاءات، رصدوا قصصًا إنسانية عميقة، كطفل كان يعزف على العود وفقد يده بعد قصف مدرسته، فابتكروا له طريقة جديدة ليعزف الكمان عبر تثبيت قوس الآلة على طرف يده المبتورة.

صالح جبر: خبأت العود فى كيس طحين

التحق صالح جبر بمعهد إدوارد سعيد فى ٢٠١٨، كان حينها فتى شغوفًا بآلة العود، يرى فى المعهد بيتًا ثانيًا، كبر فيه وتشكل وجدانيًا بين دروس العزف وأحلام المسارح الكبيرة. قال «جبر» لـ«الدستور»: «تعلقت بالموسيقى كأنها نبضى، وكان حلمى أن أتخرج فى المعهد، وأطوف العالم عازفًا على خشبات المسارح الراقية، لكن كل ذلك انهار فجأة مع اندلاع الحرب على غزة».وأضاف: «انقطعت عن العزف ٥ أشهر كاملة، منذ بداية الحرب وحتى فبراير ٢٠٢٤، بسبب النزوح والخوف وعدم الاستقرار»، مشيرًا إلى أن «بيت جدى، الذى أورثنى حب آلة العود، قُصف ودُمر».وواصل: «فى فبراير، وبينما كانت الحالة النفسية فى أسوأ مراحلها، تلقيت اتصالًا من أستاذى محمد الهباش، نازح مثلى فى منطقة النصيرات، يعرض فكرة تحويل مراكز الإيواء إلى مساحات للتفريغ النفسى عبر الموسيقى، فقررت أن أُخبئ العود فى كيس طحين كى لا اكتشف، وذهبت به إلى أحد مراكز الإيواء، بإشراف صديقى جبر ثابت، منسق المعهد».وأكمل: «توقعت الرفض وربما السخرية، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، الأطفال والأهالى اجتمعوا حولنا، صفقوا وضحكوا وتأثروا، وطالبونا بالعودة مجددًا، فبدأت مع زميلى الهباش تقديم فعاليات موسيقية منتظمة».فى يوليو ٢٠٢٤، انضم «جبر» رسميًا إلى فريق المعهد كمدرب ومعلم، وبدأ بتشكيل مجموعات موسيقية، وتعليم الأطفال العزف والغناء داخل مراكز الإيواء. واختتم «جبر» بقوله: «العود لم يعد مجرد آلة موسيقية بالنسبة لى، بل صار رمزًا للمقاومة الثقافية والأمل الذى لا يُقصف».من قلب الدمار وأصوات القصف، تقف سما نجم، الطالبة السابقة فى معهد إدوارد سعيد الوطنى للموسيقى، وقد تحولت إلى مدربة كمان، بعد ٥ سنوات من التعلم، وبعدما أوقفت الحرب حلمها بأن تصبح عازفة أوركسترا، ودفعتها للابتعاد عن الموسيقى ٧ أشهر كاملة.