ورحلت الست هدى.. والدة “الأدباء الشباب”

ورحلت الست هدى.. والدة “الأدباء الشباب”

     و نحن نتهيأ لاستقبال عيد الأضحى المبارك فجعنا نبأ رحيل الإذاعية الراقية هدى العجيمي. وهي التي ظلت  لسنوات طويلة مقصد المئات، بل قل الآلاف وثق أن لا مجال للمبالغة، من الأدباء الشبان الذين يسعون للتحقق وإيصال إبداعاتهم لجمهور يقدر قيمة الكلمة منظومة ومنثورة.
    ظلت سيرتها ملهمة لكل من أخذت بأيديهم نحو صدارة المشهد الثقافي عن طريق استضافتها لهم في برنامجها الأوسع انتشارًا في أوساط المثقفين، كيف لا وقد كانت تقدم نصوص هؤلاء الشباب المغمورين ليحللها ويناقشها كبار النقاد والمختصين فتكون هذه السيدة وبرنامجها البوابة الأوسع التي يدلف من خلالها أصحاب المواهب الحقيقية إلى رحاب الشهرة والأضواء والتحقق.
     كنت أتساءل: لماذا كانت الأستاذة العجيمي هي الأنجح وسط كل من عني بهذا اللون البرامجي ؟ ولم أعد إلى طرح السؤال مجددا حين عرفت أن السر كان في ثقافتها هي نفسها وموهبتها الشخصية والتي برزت من خلال عدة كتب أصدرتها تباعًا منذ سنوات حين توقفت عن تقديم برنامجها الإذاعي قبل نحو ١٥ عاما مضت. وعند هذه النقطة سأتوقف في مقال قادم بالتفصيل لأقدم مقترحًا تفصيليًا إلى السيد رئيس الهيئة الوطنية للإعلام.
  أعود لسيرة الراحلة العظيمة والتي ولدت في ٢٤ يوليو عام ١٩٣٦ في مدينة بورسعيد الباسلة والتي ظلت تفخر بالانتساب إليها في كل أحاديثها وكثير من كتاباتها. التحقت العجيمي بالعمل الإذاعي كمحررة أخبار  ، ثم عملت ببرامج المنوعات وخلال تلك الفترة شاركت بقوة مع الرائدة الإذاعية صفية المهندس في برنامج ” ربات البيوت “.
بدأت العجيمي رحلة رعايتها للمواهب الشابة ببرنامج ” زهور وبراعم” ثم اتبعته ببرنامجها الأشهر “مع الأدباء الشبان” والذي استمرت في تقديمه لنحو ربع قرن كامل، ما أهلها لتكون عضوًا بمجلس إدارة اتحاد الكتاب حيث حصدت أعلى الأصوات من الناخبين حينها. كما كانت تعتز كذلك ببرنامج “مشوار حياتي” والذي وثقت فيه لعدد كبير من قمم الإبداع الأدبي والفني والصحفي امثال يوسف وهبي، نجيب محفوظ، يحيى حقي،زكي طليمات، نيازي مصطفى وغيرهم.
     لخصت الراحلة الكريمة مسيرتها مع الإذاعة في كلمتين جعلتهما عنوانًا لواحد من كتبها هما “قصة عشق” وفي ظني أن هذا العشق كان سر نجاحها، فضلًا على رقيها في التعامل مع الجميع وحسن أخلاقها التي تشهد بها مسيرتها وكل المتعاملين معها.
  من بين إبداعات الست هدى الأدبية كتابها الماتع “سنوات الحرب والحظ ” والذي تروي فيه رحلة عطاء والدتها، سواء في مدينتهم بورسعيد أو في مدن التهجير، خلال ثلاثة حروب مرت بها المدينة الباسلة.
    ربما سمعت الأستاذة هدى باسمي خلال عضويتها في لجان تحكيم دورات مهرجان الإذاعة والتليفزيون، لذا لم يفاجئني عنايتها البالغة بالسؤال عني من حين لآخر، ودعمي بكلمات مشجعة كلما واتت الفرصة لمكالمة أو لقاء، لكن توطدت العلاقة بها على إثر استضافة الإعلامية دكتورة صفاء النجار لها من خلال برنامج اسعدتنا بتقديمه للإذاعة عنوانه “ضي القناديل” فوحظتها تتابع الإذاعة التي اديرها على إثر تلك الاستضافة باهتمام اسعدني.
      الأكثر تأثيرًا في شخصي كان اللقاء الأطول والأخير بيننا قبيل شهر رمضان الماضي، إذ فكرت في توثيق مسيرة كبار الاذاعيين من خلال برنامج حديث مباشر يحمل اسم ” راجعين يا هوا”، لتكون الأستاذة العجيمي على رأس قائمة الأسماء المرشحة للمشاركة، وفي الحقيقة لم ابذل جهدًا في إقناعها إذ وجدتها مهيأة لذلك ومرحبة به. وحين عرضت أن أبادر بالذهاب إليها للتسجيل مقدرا عامل السن، لاحظت في حديثها رغبة لديها في الحضور إلى مبنى الشريفين. وفي مثل هذه الحالات أرحب بشدة لأن وجود العمالقة في رحاب بيتهم الأول ما يسعدهم، إذ يستعيدون ذكريات البدايات، كما أنه يقودهم للتدفق في الحديث وسرد الذكريات. غير أنها أرجأت الموعد إلى حين عودة نجلها المحترم من مهمة عمل بالخارج ليصحبها في ذلك اليوم، وقد كان.
وحين جاءت كان يوما عظيما لي ولزملائي، وبعدها أرسلت تشكر حسن الاستقبال وتثني على أداء الزميل حسام فني التسجيلات. كما قالت لي شهادة لن أتردد في ذكرها لحضراتكم فهي مما اباهي به وأفتخر، إذ ذكرت لي نصا في رسالة مكتوبة أحتفظ بها ” لا أكون مجاملة عندما أقول بأن القاهرة الكبرى سحبت البساط…و قد جعلت منها شعلة نشاط وحركة وتفوق. لقد حققت اذاعتكم أهدافها من خلال الإعلام والترفيه والوصول إلى آذان المستمعين وقلوبهم وعقولهم ”             
       قبل هذا اللقاء بعام كنت قد استعنت بها كضيفة لتحدثني من خلال برنامجي” مليون علم للبلد “عن الأستاذين فهمي عمر وأحمد عبد المعطي حجازي، ولم ترفض لي طلبا. فتحدثت وهي من هي  بتواضع جم حديث التلميذ عن أستاذه. 
 يلخص هذا الحزن الشديد الذي أصاب الوسط الأدبي والمؤسسة الإعلامية قيمة السيدة الراحلة وقدرها، فهي وكما وصفها محرر الدستور صاحبة الأيادي البيضاء على مبدعي مصر، وأضيف بل وعلى متذوقي الأدب وعشاق الراديو كذلك. رحم الله الراقية والمبدعة هدى العجيمي وعوض الإعلام المصري والوسط الثقافي عنها خيرا.