نبوة العجوز الحكيمة

ثلاثة من الإعلاميين أصحاب البرامج التليفزيونية تكلموا عن حدث ما وشيك، حدث لن يسعد كثيرين، تراجع اثنان منهما بتغريدتين على منصة إكس، تراجعًا جعل الأمر أكثر غموضًا، لا أريد أن أناقش تصريحاتهم، ولكنى مستاء من هذه الطريقة فى مخاطبة الرأى العام الذى تتقاذفه الشائعات والأخبار مجهولة المصدر، وأتساءل: هل يملك هؤلاء معلومات لا يعرفها غيرهم؟ وهل هذه المعلومات مرتبطة بالوضع الإقليمى الملتهب حولنا؟ وهل هذا الحدث مرتبط بالاقتصاد أم بالسياسة؟بالطبع ظهر الارتباك على منصات التواصل الاجتماعى، ومنح عددًا من خصوم الدولة الفرصة كى يفردوا عضلاتهم على الناس، خطورة هذا الكلام هو نشر الخوف بين الناس. نعرف أن مصر فى هذه اللحظة تواجه بصلابة تحديات صعبة جدًا، وخصوصًا فى الملف الفلسطينى، الذى تتعامل معه بنبل ومسئولية، ناهيك عن الملفات الأخرى التى لا تقل خطورة فى ليبيا والسودان وإثيوبيا، ملفات فُرضت علينا وهددت مصالحنا وأمننا، ومع هذا يوجد سلام اجتماعى وتكاتف وثقة فيمن يديرون دفة الأمور حتى لو اختلفت معهم فى بعض المسائل، خصوصًا المتعلقة بالاقتصاد والحريات، ولكنك فى المسائل المرتبطة بأمن مصر القومى تقف فى ظهرهم.تصريحات الإعلاميين الثلاثة ليست فى صالح أحد، وربما تخدم المتربصين بالدولة المصرية، التى تحتاج إلى الدعم من مواطنيها، وتحتاج الى طمأنتهم على المستقبل، لا إغراقهم فى القلق والريبة، يجب مراجعة السادة الذين ادعوا أن شيئًا ما وشيكًا سيحدث، لأن المسألة ليست لعبة، وكلام مثل هذا من الممكن أن يؤثر على كل مناحى الحياة، سيتردد مثلًا المستثمرون والسائحون فى المجىء، وربما اختفت السلع رغم تراجع الدولار أمام الجنيه مؤخرًا، وهذا دليل صحة لا مرض.برامج المذيع الواحد الذى يخاطب الجمهور تراجعت إلى حد كبير، ولكنها تؤثر فى قطاعات لا تبحث عن المعلومات من مصادرها، وهذه القطاعات مشغولة بطلاق النجم وجريمة سرقة وانتحار.. وهل سيتم خصم ثلاث نقاط أخرى من الأهلى؟، ولكن القضايا الكبرى الأهم نادرًا ما يتحدث فيها هؤلاء، لأن كل واحد منهم له كفيل، وهذا الكفيل عنده أولويات، وقد تتعارض أولويات أحدهم مع توجهات الدولة المصرية، ومع هذا تحدث مداخلات لمسئولين فى هذه الدولة مع الـ«أحدهم» فيعطى لبرنامجه ثقلًا لا يستحقه، أضف إلى ذلك قلة ثقافة هؤلاء الذين يرقصون رقصة بدائية على جثة الحدث اليومى، ولا يؤمنون برأى أهل الاختصاص، لأنهم يثقون فقط فى الذين يتحدثون كلامًا مريحًا إذا أخطأوا واستضافوا أحدًا، والأخطر فى حالة المذيع هذا أنه يعتبر من يخالفه الرأى شخصًا غير وطنى.هذا الحدث الوشيك الذى تحدث عنه الأساتذة جعلنى أعود إلى قصة لم يكتبها أديب نوبل ماركيز حكاها فى ندوة أقيمت فى كراكاس بفنزويلا بتاريخ ٣ مايو ١٩٧٠، وكانت بعنوان: «كيف بدأت الكتابة» ترجمها أحمد عبداللطيف، تطرقت لها قبل ذلك، ولكنها مناسبة جدًا لهذا العبث الذى أربكنى وأربك كثيرين فى الأيام الماضية.«تخيلوا أنكم فى قرية صغيرة تقطن فيها سيدة عجوز، لها من الأبناء اثنان، أحدهما ولد فى السابعة عشرة، والأخرى فتاة فى الرابعة عشرة، تُقدِم لهما الإفطار ذات يوم بوجه تعلوه علامات القلق. يسألانها عمّا حدث، فتخبرهما بأنها استيقظت وهى تشعر بأنّ شيئًا خطيرًا جدًا سيحدث فى هذه القرية. يسخر الابنان من أمهما. يقولان إنه شعور سيدة عجوز، أشياء وتمرّ. ويذهب الابن ليلعب البلياردو، وفى اللحظة التى يوشك فيها على ضرب الكرة يقول له اللاعب الآخر: أراهنك ببيزو أنك لن تصيب. يضحك الجميع. ويضحك الابن. ويضرب الكرة فلا يصيب. يدفع البيزو، ويسأله الجميع عمّا به، فقد كانت لعبة فى غاية السهولة، فيجيبهم: أنتم مُحقون، لكننى مشغول جدًا بأمر أخبرتنى به أمى هذا الصباح، قالت إنّ شيئًا خطيرًا جدًا سيحدث فى هذه القرية. سخر منه الجميع. وعاد اللاعب الذى فاز عليه وربح البيزو إلى بيته، حيث سيجد أمه أو حفيدته أو أى قريبة أخرى.وسعيدًا بالبيزو الذى ربحه يقول: لقد ربحت هذا البيزو من داماسو بطريقة بسيطة جدًا، لأنه أحمق.. لماذا تقول إنه أحمق؟.. لأنه لم يستطع أن يصيب كرة سهلة قائلًا إنّ هناك فكرة متسلطة تلاحقه، حيث إنّ أمه قالت له إنها استيقظت وهى تشعر بأنّ شيئًا خطيرًا جدًا سيحدث فى هذه القرية. تجيبه أمه حينئذ: لا تسخر من نبوءات العجائز فأحيانًا تصيب، تسمعه وتذهب لشراء اللحم. تقول للجزار: أعطِنى رطلًا من اللحم. وفى اللحظة التى يقطع لها ما طلبته تضيف: اجعله رطلين، لأنهم يقولون إنّ شيئًا خطيرًا سيحدث ومن الأفضل أن نستعدّ له. يعطيها طلبها. وعندما تأتى سيدة أخرى تشترى رطل لحم آخرَ، ويقول لها: خذى رطلين، لأن الناس يقولون إنّ شيئًا خطيرًا سيحدث، ولذا يستعدون ويشترون ما يكفيهم من المؤن. حينئذ تجيبه العجوز: لدىّ العديد من الأولاد، ومن الأفضل آخذ أربعة أرطال. تأخذ طلبها وتسير…وحتى لا أطيل القصة، سأقول إنّ الجزار باع كل اللحم فى نصف ساعة، وذبح بقرة أخرى وباعها كلها، وذاعت الشائعة. وتأتى لحظة يكون فيها أهل القرية فى انتظار حدوث شىء، فتتوقف كل الأنشطة. وفجأة، فى الساعة الثانية ظهرًا، عندما يشتدّ الحرّ، يقول أحدهم: هل انتبهتم لهذا الطقس؟، نعم، لكن طقس هذه القرية دومًا حار، ومع ذلك- يقول أحدهم- لم يكن حارًا أبدًا بهذه الدرجة فى هذه الساعة، لكن الثانية ظهرًا أشدّ ساعات الحرّ، نعم، لكن لم يكن حارًا مثل الآن.تصير القرية خالية، والميدان خاليًا، فيهبط عصفور، وينطلق فجأة صوت: هناك عصفور فى الميدان. ويتجمع الناس، يرتجفون خوفًا، ليروا العصفور. لكن يا سادة، عادة ما تهبط العصافير للميدان، نعم، لكن العصافير لم تهبط قط فى هذه الساعة. ويصاب أهل القرية فى لحظة بالضغط، ويصيبهم اليأس، ويتمزقون بين هجر القرية وعدم توافر الشجاعة لفعل ذلك. يقول أحدهم: أنا رجل وسأرحل. يضع أولادة وأثاثه وحيواناته فى عربة، ويعبر بالشارع الرئيسى للقرية المسكينة التى تتفرج عليه، حتى يقولوا: إن كان هذا تجرأ وفعلها فنحن أولى بها. ويبدأ الخروج حرفيًا من القرية. يحمل أهلها أشياءهم وحيواناتهم وكل شىء، ويقول أحد الأواخر الذين يهربون من القرية: حتى لا تقع النكبة على ما تبقى من بيتنا، ويحرق بيته ويفعل الآخرون مثله، ويهربون فى ذعر هائل وحقيقىّ، كما لو كان هروبًا فى حرب. وفى الوسط تسير السيدة العجوز صاحبة النبوءة، صارخة: قلتُ إنّ شيئًا خطيرًا جدًا سيحدث فى هذه القرية، وقالوا إننى مجنونة».