الهند وباكستان: التعادل 2-2

استيقظ العالم فى الأسابيع الماضية على أخبار تجدد الصراع بين الهند وباكستان، لا سيما على مسألة الحدود فى كشمير المتنازع عليها. وتم تصوير هذا النزاع على أنه صراع بين الهندوس والمسلمين، بين الهند «الهندوكية»، وباكستان «الإسلامية»، وتناسى هؤلاء أنه ولوقت قريب كان الجميع، الهند وباكستان وبنجلاديش، يعيشون جميعًا فى ظل «الهند التاريخية»، الهند الموحدة.كانت الهند وعبر تاريخها الطويل مثالًا لحوار الثقافات واللغات والأديان، وربما لا يعرف البعض أن الهند كانت موطنًا لواحد من أكبر لقاءات الحضارات، مع تحول المغول إلى الإسلام، وتأسيسهم حضارة إسلامية فى الهند، ودولة تتسع للجميع، بنفس المنطق الحضارى الذى عاشته تجربة الأندلس.ومع الاستعمار البريطانى للهند، واعتماد سياسة فَرِّق تَسُد، تصاعد التوتر الطائفى فى البلاد. ولا يمكن أن نلقى تهمة نشأة التيارات الدينية المتطرفة فى الهند سواء الإسلامية منها أو الهندوسية على عاتق بريطانيا، فبالتأكيد هناك تيارات متطرفة فى كل البلاد، وداخل كل الحضارات على مستوى العالم. لكن ما يُؤخذ على الاستعمار الإنجليزى هو دعم هذه التيارات وتوظيفها لخدمة المصالح الاستعمارية، واستخدام الدين فى مواجهة التيار القومى، الذى كان فى حالة تصاعد طيلة القرن التاسع عشر، ليس فى الهند فحسب، بل فى كل المستعمرات؛ إذ كان التيار القومى الهندى يدعو إلى جلاء بريطانيا عن الهند، واستقلال الهند «الموحدة».من هنا سنجد الدعم البريطانى اللا محدود للسيد أحمد خان، ومجموعة مسلمى شمال الهند فى عام ١٨٦٦ نكايةً فى المؤتمر الوطنى الهندى، الذى كان يدعو إلى تنظيم الأوضاع فى الهند تحت راية «القومية الهندية».وفى عام ١٩٠٦ شجعت بريطانيا أعيان المسلمين فى الهند على المطالبة بإنشاء دوائر انتخابية خاصة بالمسلمين، أى نظام «الكوتة الطائفية»، من أجل ترسيخ حالة الانقسام الطائفى فى الهند.ومع حلول سنوات الثلاثينيات الصعبة، واشتعال الحرب العالمية الثانية، ازدادت حدة التيار القومى الهندى فى المطالبة باستقلال الهند. ومع تصاعد حركة الزعيم الهندى المهاتما غاندى من أجل استقلال الهند، ومع ضعف موقف بريطانيا من جراء السنوات الطويلة للحرب العالمية الثانية، بات واضحًا أن الحكم البريطانى للهند قد قارب على الانتهاء، وأن بريطانيا- التى لم تعد «بريطانيا العظمى»- أوشكت على فقدان درة التاج البريطانى، أى الهند.وأدركت بريطانيا أنه إذا حدث الاستقلال فإن التيار القومى الهندى سيسعى إلى انسحاب الهند من الكومنولث البريطانى، كما أنهم- ونتيجة الميراث السيئ للاستعمار البريطانى- سيرفضون أى نفوذ، أو علاقة خاصة تربط بين الهند المستقلة وبريطانيا.من هنا استقر رأى دوائر صُنع القرار فى لندن على ضرورة تقسيم الهند. وجرى تحديد موقع دولة باكستان المقترحة، لدوافع استراتيجية تخدم المصالح البريطانية مستقبلًا؛ إذ كانت الدولة المقترحة تجاور إيران وأفغانستان والصين، وبالقرب من المناطق الجنوبية للاتحاد السوفيتى، العدو الجديد. وبالتالى يمكن الحفاظ على المصالح البريطانية، بل والمصالح الغربية بشكل عام.ولا بُد من الإشارة إلى أنه كان هناك تيار آخر فى دوائر السياسة البريطانية، يرى أنه ربما من الأفضل الإبقاء على الهند الموحدة، مع بذل الكثير من الجهد للوصول إلى نوع من التعاون والتنسيق بين «الهند الموحدة المستقلة» والسياسات البريطانية. لكن فى النهاية انتصر تيار التقسيم فى دوائر صنع القرار فى بريطانيا. وتم عقد العزم على تقسيم شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان، وضمان ولاء باكستان للاستراتيجية البريطانية، عن طريق تقديم المعونات المادية والعسكرية لها، لخدمة المصالح الغربية. وتلخص ذلك وثيقة بريطانية فتقول: «إن وادى السند والبنجاب الغربية وبلوشستان مناطق حيوية بالنسبة للدفاع عن الحزام الإسلامى عظيم الأهمية، وإمدادات النفط من الشرق الأوسط». ورأت السياسة البريطانية والغربية بشكل عام، أنه منذ سقوط الدولة العثمانية لم تعد هناك قوة كبرى إسلامية، ومن المهم أن تصبح «كراتشى مركزًا جديدًا للتلاحم ونقطة تجمع لفكر المسلمين وتطلعاتهم»!من هنا سيشهد عام ١٩٤٧، عام «التقسيم العالمى»، مشروع تقسيم شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان، على أساس يبدو طائفيًا، مع ملاحظة وجود عشرات الملايين من المسلمين فى الهند بعد الاستقلال، وشهد العام نفسه مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين، على أساس دينى وعرقى: دولة يهودية ودولة عربية «إسلامية». وكما كان الهدف من إنشاء دولة «باكستان الإسلامية» فى حقيقة الأمر يخدم المصالح البريطانية والغربية بشكل عام فى أواسط آسيا، كان تقسيم فلسطين يخدم المصالح نفسها من أجل حماية قناة السويس، التى بات واضحًا أن مصر تصر على جلاء القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس. وفى الوقت نفسه كانت السياسة البريطانية والغربية بشكل عام تسعى فى ذلك إلى تشجيع القوى الدينية فى المنطقة، سواء آسيا أو العالم العربى، من أجل الوقوف فى وجه المد الشيوعى، لا سيما مع بروز الاتحاد السوفيتى بعد الحرب العالمية الثانية كقوى عظمى لا يُستهان بها، تسعى إلى «تصدير» الشيوعية فى المنطقة.هكذا شهدنا قيام الدول ذات البُعد «الدينى» فى المنطقة لخدمة المصالح الاستراتيجية الغربية، وهكذا نعيش حتى الآن، الصراع الغربى ذا الوجه الدينى فى الشرق الأوسط وجنوب آسيا.كما كان الهدف من إنشاء دولة «باكستان الإسلامية» فى حقيقة الأمر يخدم المصالح البريطانية والغربية بشكل عام فى أواسط آسيا