طروب.. نبض السعادة الذي عبر عن نفسه بعينيها قبل أن تتحدث بصوتها

في عالمٍ عربيٍّ عجّ بالأساطير الفنية، كان لا بدّ من نسمةٍ مختلفة تُدخل الفرح من دون استئذان. تلك النسمة كانت طروب، الفنانة التي جاءت من ضوء الشرق، لا لتتنافس على العرش، بل لتزرع البهجة في القلوب، وتترك في ذاكرتنا لونًا لا يُشبه أحدًا.
في حضورها، كانت الموسيقى تتأدّب، والرقص يكتسب هيبة، والصوت يبتسم كما لو أنه وُلد كي يُداعب الحنين.وُلدت طروب باسمها الحقيقي أمل إسماعيل جركس، في دمشق مسقط رأسها؛ فدمشق مدينة والدتها، وعمّان بلد والدها. هي ثمرة هذا المزج بين الرقة الدمشقية والصلابة الأردنية، وقد شبّت على محبة الفن والغناء والرقص، وامتلكت منذ بداياتها حضورًا لا يُنسى. كان فيها من البراءة ما يُشبه الطفولة، ومن الجرأة ما يُشبه الأنوثة حين تُحسن التعبير عن نفسها بلا خوف.
كانت طروب أشبه ببطاقة بريدية من زمنٍ جميل، تصل إلى القلب دون أن تمرّ بالبريد.⸻الصوت الذي ابتسم للجمهوربدأت طروب بالغناء في الإذاعة اللبنانية، ثم انتقلت إلى مصر مع الفنان محمد جمال، حيث شكّلا ثنائيًا فنيًا ناجحًا استمر سبع سنوات. لم يجمعهما الفن وحده، بل الحياة أيضًا، فقد تزوجا خلال تلك المرحلة، لكنهما افترقا بعد ذلك فنيًا وزوجيًا، في انفصال هادئ، ظلّت بعده طروب تحتفظ برقيّها دون الدخول في متاهات الحياة الشخصية أو صراعات الوسط الفني.ورغم الانفصال، واصلت طروب مسيرتها وحدها وتألقت كنجمة مستقلة، وأثبتت أنها قادرة على النجاح دون شريك، والدليل على ذلك مجموعة من الأغاني التي غنّتها بمفردها ولا تزال تُردد حتى اليوم:
• “صبّابين الشاي”
• “يا ستي يا ختيارة”
• “شينا ناي شينا ناي”
• “يا حلّاق اعملّي غرّة”
• “أنا مسافرة ودّعوني”كانت أغنياتها قصيرة، مرحة، صادقة، تشبه تلك اللقطات الجميلة من الحياة التي لا تتكرر كثيرًا. لم تكن تعتمد على استعراض طبقات الصوت، بل على حضورها الفريد وإحساسها الشعبي المُحبّب.
كانت تُغنّي وكأنها تُهدهد القلب، وتبتسم للحن كما لو أنه سرّ صغير لا يعرفه سواها.⸻على الشاشة… رقصت الطلة وتكلّمت العيونفي السينما، ظهرت طروب في عشرات الأفلام، معظمها في ستينيات القرن الماضي. لم تكن دائمًا البطلة الأولى، لكنها كانت دائمًا الحضور الذي لا يُخطئه القلب. رقصت، غنّت، ضحكت، وأعادت تعريف مفهوم “المرأة المرحة” في السينما من دون أن تفرّط في رقيّها.وقفت أمام عمالقة الشاشة مثل:
• فريد شوقي
• رشدي أباظة
• إسماعيل يس
• عبد السلام النابلسيوكانت الكاميرا تحبّها، لأنها كانت تعرف كيف تردّ الحب بلقطة، أو رقصة، أو نظرةٍ فيها من الصدق ما يكفي ليصبح الفنّ حقيقيًّا لا يُنسى.
في حضورها، كانت الشاشة تبتسم، والمشهد يرقص معها حتى في صمته.⸻أسطورة الفرح التي انسحبت بصمترغم شهرتها الكبيرة، اختارت طروب الانسحاب من الضوء في هدوء. لم تسعَ إلى تصدّر الصحف، ولم تتورّط في صراعات الوسط الفني. انسحبت بذوق، واحتفظت لنفسها بمسافةٍ من المجد، ولكن ظلّ اسمها محفوظًا في القلوب، وكأن الزمن لم يُمرّ عليه غبار.لم يكن فنّها مجرّد غناء أو تمثيل، بل كان حالة فرح نادرة، نُسجت بخيوط الأناقة والمرح، وبقيت مثالًا على أن الفنان الحقيقي لا يُقاس بعدد الجوائز، بل بجمال الأثر الذي يتركه في قلوب محبّيه.
طروب لم تخرج من الذاكرة، لأنها لم تدخلها عنوة، بل انسابت إليها مثل لحن دافئ في أمسية صيفية هادئة.