بين الاستقرار والتحول في الشريعة الإسلامية

قد يتساءل البعض عن سبب اهتمامي بالشريعة الإسلامية، والجواب بسيط: فأنا مصري أعتز بمصريتي، وأحترم دستور دولتي الذي ينص في مادته الثانية على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. وهي تنطبق على جميع المواطنين، بمن فيهم المسيحيون، باستثناء ما يتعلق بـ”أحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية” وفقًا لما تقرره المادة الثالثة من الدستور ذاته.وبما أن المادة الثانية لا تزال قائمة، فقد وجب الاستمرار في دراسة الشريعة الإسلامية، بدافع فهم فلسفة القوانين المستمدة منها، والتي تقيّد جميع المصريين، بما فيهم المسيحيون، في بعض قضايا الأحوال الشخصية.فقد نصت المادة السادسة من القانون رقم 462 لسنة 1955 على إلغاء المحاكم الشرعية والملية، وأن تُصدر الأحكام في منازعات الأحوال الشخصية والوقف وفقًا لشريعة غير المسلمين، أي بحسب ما كانت تطبقه جهات القضاء الملي قبل إلغائها، باعتبارها شريعة نافذة. إذ لم يكن في مقدور المشرّع حينها أن يضع قواعد جديدة، فاكتفى بتوحيد جهات القضاء، مع الإبقاء على الأحكام الموضوعية التي كانت سارية.لكن المادة السابعة من القانون ذاته اشترطت أن يكون المتقاضون متحدي الطائفة والملة عند رفع الدعوى، وإلا سرت عليهم أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما يجري به العمل حتى اليوم، فضلًا عن تطبيق قوانين الميراث الإسلامية على المسيحيين.وينبغي التأكيد على أن الدستور ينص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية” هي المصدر الرئيسي للتشريع، لا غيرها. ومن هنا، كان من الضروري تحديد ماهية هذه “المبادئ”.وقد أوضحت ديباجة الدستور مضمون هذه المبادئ على النحو الآتي: “نكتب دستورا يؤكد أن مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وأن المرجع في تفسيرها هو ما تضّمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن”. وقد استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي ” الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، فهذه الأحكام وحدها هي التي لا يجوز الاجتهاد فيها، وهي تمثل من الشريعة الاسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلا أو تبديلا. ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعا لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها”. من هذا المنطلق، لم أتمكن من إخفاء انزعاجي الشديد من مشروع تنظيم الفتوى، فمبدأ حرية العقيدة، وحرية الفكر والرأي والتعبير، لا يسمحان بإجبار أحد على اللجوء إلى جهة محددة دون غيرها للفتوى. كما أن الفتاوى الموصوفة بـ”الشرعية” ستكون واجبة التطبيق على كل المصريين، بمن فيهم المسيحيون، لأن مشروع القانون لم ينص على استثنائهم من الفتوى العامة.من الواجب أن تُنسب الفتوى إلى قائلها، لا إلى الشريعة. فحتى إن اقتصر إصدار الفتوى على جهات بعينها، فإن ما عداها يظل فتوى، لكنها لا تُنسب بالضرورة إلى الشريعة ذاتها. فما هو الأساس الذي يُجيز نسبة فتوى للشريعة؟ هل هو مقام المفتي أم علمه، ولو كان من كبار العلماء؟ أم أن العبرة بالاستناد إلى دليل شرعي؟ في الحالة الأخيرة، تصبح كل فتوى مستندة إلى دليل فتوى “شرعية”، وتكون قابلة للاختلاف بطبيعتها.إن تعبير “الفتوى الشرعية” يثير اللبس، وكأن الفتوى تحتكر الشريعة، مع أن الشريعة لا يمكن احتواؤها في فتوى واحدة، ولا يمكن للفتوى أن تستوعب كل أبعاد المسألة الصادرة بشأنها. وفي ظروف أخرى، قد تصدر فتوى مغايرة أو مناقضة، وتوصف بدورها بأنها “شرعية”، فأيٌّ منهما تُعدّ شرعية وأيٌّ منهما لا؟ ولذلك، ومنعًا لإغلاق باب الاجتهاد أو اتهام الشريعة بالتناقض، أقترح وصفها بأنها “فتوى متوافقة مع الشريعة” أو “تستند إلى مقاصد الشريعة” أو ما ماثل ذلك..كما أن تحديد جهات رسمية للفتوى الشرعية قد يفتح المجال أمام المتسلقين وأصحاب النفوس الضعيفة، ويُعزز من سلطة من يسعون لاحتكار الدين. والتناقض يتجلى في أن مشروع القانون ينص على ترجيح رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عند تعارض الفتاوى، ما يعني عمليًا مصادرة حق ولي الأمر في المفاضلة بين الآراء الفقهية واختيار ما يحقق المصلحة العامة، وهو ما يُفترض أن تقوم به السلطة التشريعية. فهل تُصبح هيئة كبار العلماء بديلًا عن ولي الأمر؟أعيد التأكيد أن الجهة الوحيدة المخوّلة بتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية، وفقًا للدستور، هي المحكمة الدستورية العليا، بما تضمنته أحكامها، ولا يمكن لأي جهة أخرى أن تفرض رؤيتها الفقهية على المجتمع، بمن فيه من مسيحيين.يتضح من ذلك أن المصدر الذي لا يجوز تقنين القوانين إلا بما يوافق مضمونه، هو فقط الأحكام القطعية في الثبوت والدلالة. أما ما عداها من اجتهادات فقهية، فهي آراء يجوز لولي الأمر لا لغيره الأخذ بأي منها، ولا يُعد ترك رأيٍ منها مخالفةً لمبادئ الشريعة الإسلامية.ومن هنا، تصبح ضرورة التمييز بين ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وبين ما يقبل الاجتهاد والتأويل، أمرًا محوريًا. وكذلك وجب التفرقة بين ما هو عقيدة ثابتة، وبين ما اختلفت فيه آراء الفقهاء.