ضرورة التفاهم بين واشنطن والحوثيين!

عند إعلانه وقف الأعمال العدائية، بين قواته في البحر الأحمر وبين قوات الحوثي في اليمن، بدا الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وكأنه معجب بالجماعة الإسلامية المسلحة، على الرغم من تعهده سابقًا بـ (القضاء عليها تمامًا).. وقال، (لقد ضربناهم بشدة، وكان لديهم قدرة كبيرة على تحمل العقاب.. يمكن القول إن لديهم شجاعة كبيرة.. لقد وعدونا بأنهم لن يطلقوا النار على السفن بعد الآن، ونحن نحترم ذلك)!!.. ذلك ما أثار دهشتي، من هذا القرار المفاجئ، ولم أعرف له تفسيرًا منطقيًا، إلى أن أماطت صحيفة The New York Times، اللثام عن هذا الاتفاق، بين دولة كبرى كالولايات المتحدة، وبين جماعة مسلحة، تعتبرها واشنطن (إرهابية).. فما هي الحكاية؟.عندما وافق ترامب على حملة عسكرية لإعادة فتح الملاحة في البحر الأحمر، بقصف جماعة الحوثي المسلحة لإجبارها على الاستسلام، أراد رؤية نتائج في غضون ثلاثين يومًا من الضربات الأولى التي شُنّت قبل شهرين.. وبحلول اليوم الحادي والثلاثين، طالب ترامب، الذي كان دائمًا متخوفًا من التورطات العسكرية المطولة في الشرق الأوسط، بتقرير مرحلي، وفقًا لمسئولين في إدارته.. لكن النتائج التي أرادها لم تكن موجودة.. لم تكن الولايات المتحدة قد حققت حتى تفوقًا جويًا على الحوثيين.. وبدلًا من ذلك، ما ظهر بعد ثلاثين يومًا من تصعيد الحملة ضد الجماعة اليمنية.. كان تدخلًا عسكريًا أمريكيًا آخر باهظ الثمن، ولكنه غير حاسم في المنطقة.. إذ أسقط الحوثيون عدة طائرات أمريكية مسيرة من طراز MQ-9 Reaper، وواصلوا إطلاق النار على السفن الحربية في البحر الأحمر، بما في ذلك حاملة طائرات أمريكية.. وأحرقت الضربات الأمريكية أسلحة وذخائر بمعدل يقارب مليار دولار في الشهر الأول وحده.. وتفاقم الوضع، عندما سقطت طائرتان من طراز F/A-18 Super Hornet، بقيمة سبعة وستين مليون دولار ـ من حاملة الطائرات الأمريكية الرئيسية، والمكلفة بشن ضربات ضد الحوثيين ـ عن طريق الخطأ في البحر.. وبحلول ذلك الوقت، كان ترامب قد طفح كيله!!.اقترح المسئولون العُمانيون على ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، والذي كان بالفعل في محادثات نووية بوساطة عُمانية مع إيران، أن ما قد يكون بديلًا مثاليًا لترامب في قضية الحوثيين المنفصلة، هو أن توقف الولايات المتحدة حملة القصف، ولن تستهدف الميليشيات الحوثية السفن الأمريكية في البحر الأحمر بعد الآن، ولكن دون أي اتفاق لوقف تعطيل الملاحة التي تعتبرها الجماعة مفيدة لإسرائيل.. وتلقى مسئولو القيادة المركزية الأمريكية أمرًا مفاجئًا من البيت الأبيض في الخامس من مايو الحالي بـ (إيقاف) العمليات الهجومية على اليمن.. ولكي نرى ما إذا كان ذلك صحيحًا، أطلق الحوثيون صاروخًا باليستيًا على إسرائيل يوم الجمعة الماضي، وآخر أثناء وجود ترامب في الرياض أمس، مما أدى إلى انطلاق صفارات الإنذار الجوية، التي دفعت الناس إلى مغادرة شواطئ تل أبيب، قبل أن تعترضت الدفاعات الجوية الإسرائيلية الصاروخ.يُظهر الإعلان المفاجئ عن النصر على الحوثيين، كيف قلل بعض أعضاء فريق الأمن القومي لترامب من شأن جماعة معروفة بمرونتها.. إذ كان الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية، قد ضغط من أجل حملة قوية، والتي أيدها في البداية وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي.. لكن الحوثيين عززوا العديد من مخابئهم ومستودعات الأسلحة الخاصة بهم طوال القصف المكثف.. لقد أساء الرجال حول ترامب، تقدير مدى تسامح رئيسهم مع الصراع العسكري في المنطقة، قبل ويارته المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.. لم يقتنع ترامب أبدًا بالتورطات العسكرية طويلة الأمد في الشرق الأوسط، وهو الذي قضى فترة ولايته الأولى، في محاولة إعادة قواته إلى الوطن، من سوريا وأفغانستان والعراق.علاوة على ذلك، أعرب رئيس هيئة الأركان المشتركة الجديد، الجنرال دان كين، عن قلقه من أن تؤدي حملة موسعة ضد الحوثيين إلى استنزاف الموارد العسكرية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.. وكان سلفه، الجنرال تشارلز كيو براون الابن، قد شاركه هذا الرأي قبل إقالته في فبراير.. وبحلول الخامس من مايو، كان ترامب مستعدًا للمضي قدمًا، وقال في تصريحات بالبيت الأبيض، (نحن نحترم التزامهم وكلمتهم).المتحدثة باسم البيت الأبيض، آنا كيلي، صرحت في بيان، بأن (الرئيس ترامب نجح في التوصل إلى وقف إطلاق نار، وهو اتفاق جيد آخر لأمريكا وأمننا.. لقد نفذ الجيش الأمريكي أكثر من 1100 غارة، مما أسفر عن مقتل مئات المقاتلين الحوثيين وتدمير أسلحتهم ومعداتهم).. وأكد المتحدث باسم البنتاجون، شون بارنيل، أن العملية كانت تهدف دائمًا إلى أن تكون محدودة.. و(تم تنسيق جميع جوانب الحملة على أعلى مستويات القيادة المدنية والعسكرية).. ودافع مسئول كبير سابق مُطّلع على المحادثات بشأن اليمن عن مايكل والتز، مستشار الأمن القومي السابق لترامب، قائلًا إنه تولى دورًا تنسيقيًا، ولم يكن يُطالب بأي سياسة تتجاوز رغبته في تحقيق هدف الرئيس.كان الجنرال كوريلا يُهاجم الحوثيين منذ نوفمبر 2023، عندما بدأت الجماعة بمهاجمة السفن المارة عبر البحر الأحمر، كوسيلة لاستهداف إسرائيل بسبب غزوها لغزة.. لكن الرئيس السابق، جو بايدن، اعتقد أن إشراك الحوثيين في حملة قوية سيرفع مكانتهم على الساحة العالمية. وبدلًا من ذلك، أذن بشن ضربات محدودة ضد الجماعة.. لكن ذلك لم يُوقف الحوثيين.. وبما أنه الآن أصبح للجنرال كوريلا قائدًا أعلى جديد.. اقترح حملة تتراوح مدتها بين ثمانية وعشرة أشهر، تقوم خلالها طائرات القوات الجوية والبحرية بتدمير أنظمة الدفاع الجوي الحوثية.. ثم قال إن القوات الأمريكية ستنفذ عمليات اغتيال مستهدفة، على غرار العملية الإسرائيلية الأخيرة ضد حزب الله.. وقد أيّد مسئولو دولة خليجية خطة الجنرال كوريلا، وقدموا قائمة أهداف تضم إثنتا عشر من كبار قادة الحوثيين، قالوا إن مقتلهم سيشل الحركة.. لكن الإمارات العربية المتحدة، وهي الحليف القوي آخر للولايات المتحدة في المنطقة، لم تكن متأكدة من ذلك.. فقد صمد الحوثيون لسنوات من القصف السعودي والإماراتي.بحلول أوائل مارس الماضي، وافق ترامب على جزء من خطة الجنرال كوريلا، وهي غارات جوية ضد أنظمة الدفاع الجوي الحوثية، وضربات ضد قادة الجماعة.. وأطلق وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيث، على الحملة اسم (عملية الفارس الخشن).. في مرحلة ما، مُنحت حملة الجنرال كوريلا، التي استمرت من ثمانية إلى عشرة أشهر، ثلاثون يومًا فقط لإظهار نتائجها.. خلال تلك الأيام الثلاثين الأولى، أسقط الحوثيون سبع طائرات أمريكية مسيرة من طراز MQ-9، بتكلفة حوالي ثلاثين مليون دولار لكل طائرة، مما أعاق قدرة القيادة المركزية على تتبع الجماعة المسلحة وضربها.. وصرح عدد من المسئولين الأمريكيين، بأن الدفاعات الجوية الحوثية كادت أن تصيب عدة طائرات أمريكية من طراز F-16 وطائرة مقاتلة من طراز F-35، مما زاد من احتمال وقوع خسائر بشرية في صفوف الأمريكيين.. وتحقق هذا الاحتمال، عندما أصيب طياران وأحد أفراد طاقم قمرة القيادة في الحادثتين اللتين وقعتا في البحر الأحمر، من حاملة الطائرات هاري إس. ترومان بفارق عشرة أيام.في هذه الأثناء، كان العديد من أعضاء فريق الأمن القومي لترامب يتصدون للكشف، عن أن هيجسيث قد عرَّض حياة الطيارين الأمريكيين للخطر، من خلال وضع خطط عملياتية بشأن الضربات في محادثة على تطبيق سيجنال.، عندما بدأ والتز المحادثة وأدرج صحفيًا عن غير قصد.. وأفاد البنتاجون، أن الضربات الأمريكية أصابت أكثر من ألف هدف، بما في ذلك منشآت قيادة وتحكم متعددة، وأنظمة دفاع جوي، ومنشآت تصنيع أسلحة متطورة، ومواقع تخزين أسلحة متطورة.. بالإضافة إلى ذلك، قال الجيش، إن أكثر من إثني عشر من كبار قادة الحوثيين قُتلوا.لكن تكلفة العملية كانت مذهلة.. نشر البنتاجون حاملتي طائرات، وقاذفات بي-2 إضافية، وطائرات مقاتلة، بالإضافة إلى دفاعات جوية من طراز باتريوت وثاد، في الشرق الأوسط، وفقًا لما أقر به مسئولون سرًا، الذين قالوا، إنه بحلول نهاية الأيام الثلاثين الأولى من الحملة، تجاوزت التكلفة مليار دولار.. استُخدمت كميات هائلة من الذخائر الدقيقة، وخصوصًا تلك المتطورة بعيدة المدى، مما أثار قلق بعض مخططي الطوارئ في البنتاجون المتزايد بشأن المخزونات الإجمالية، وتداعيات أي موقف قد تضطر فيه الولايات المتحدة إلى صد محاولة غزو صينية لتايوان.خلال كل ذلك، كان الحوثيون لا يزالون يطلقون النار على السفن والطائرات المسيرة، ويحصنون مخابئهم، وينقلون مخزونات الأسلحة تحت الأرض.. هنا، بدأ البيت الأبيض بالضغط على القيادة المركزية لمعرفة معايير النجاح في الحملة.. وردت القيادة بتقديم بيانات توضح عدد الذخائر التي أُلقيت.. وقد أشارت أجهزة الاستخبارات إلى وجود (بعض التراجع) في قدرات الحوثيين، لكنها أوضحت أن الجماعة قادرة على إعادة بناء نفسها بسهولة.درس كبار مسئولي الأمن القومي مسارين.. يمكنهم تكثيف العمليات لمدة تصل إلى شهر آخر، ثم إجراء مناورات (حرية الملاحة) في البحر الأحمر باستخدام مجموعتي حاملتي الطائرات، كارل فينسون وترومان. إذا لم يطلق الحوثيون النار على السفن، فستعلن إدارة ترامب النصر.. أو، كما قال المسئولون، يمكن تمديد الحملة لمنح القوات الحكومية اليمنية وقتًا لاستئناف حملة طرد الحوثيين من العاصمة والموانئ الرئيسية.. لكن، في أواخر أبريل، نظم هيجسيث مكالمة فيديو مع مسئولين سعوديين وإماراتيين، وكبار المسئولين من وزارة الخارجية والبيت الأبيض، في محاولة للتوصل إلى خطة مستدامة للمضي قدمًا، ووضع قابل للتحقيق للحملة يمكنهم تقديمه إلى الرئيس.. ولم تتمكن المجموعة من التوصل إلى توافق في الآراء.انضمّ إلى المناقشات حول عملية الحوثيين، الجنرال كين، رئيس هيئة الأركان المشتركة الجديد لترامب، والذي كان متشككًا في حملة مطولة.. وقال مساعدون، إن الجنرال كين كان قلقًا بشأن إمداد منطقة المحيط الهادئ بالأصول التي اعتقد أنها ضرورية.. كما شكّك نائب الرئيس، جيه دي فانس؛ ومديرة الاستخبارات الوطنية، تولسي جابارد؛ ووزير الخارجية ماركو روبيو؛ ورئيسة أركان ترامب، سوزي وايلز، في حملة أطول أمدًا.. وقال أشخاص مطلعون على المناقشات، إن هيجسيث كان يتبادل الآراء، ويجادل كلا الجانبين.. لكن ترامب أصبح المتشكك الأهم.وقد حدث أن اضطرت حاملة الطائرات ترومان، في الثامن والعشرين من أبريل الماضي، إلى القيام بانعطافة حادة في البحر لتجنب نيران الحوثيين القادمة، وفقًا لما ذكره عدد من المسؤئولين الأمريكيين، يفسرها البعض بخلو الحاملة في ذلك الوفت من صواريخ تعترض هجمات الحوثيين.. ساهمت هذه الخطوة في فقدان إحدى طائرات سوبر هورنت، التي كانت تُسحب في ذلك الوقت وسقطت في البحر.. في اليوم نفسه، قُتل العشرات في هجوم أمريكي، أصاب منشأة للمهاجرين يسيطر عليها الحوثيون، وفقًا لمسئولي الإغاثة.. وفي الرابع من مايو، أفلت صاروخ باليستي حوثي من الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وضرب بالقرب من مطار بن جوريون الدولي خارج تل أبيب.. واضطر طياران على متن طائرة سوبر هورنت أخرى، على متن حاملة الطائرات ترومان أيضًا، إلى القفز بالمظلة، بعد أن فشلت طائرتهما المقاتلة في الإمساك بالكابل الفولاذي على سطح حاملة الطائرات، مما أدى إلى سقوط الطائرة في البحر الأحمر.بحلول ذلك الوقت، قرر ترامب إعلان نجاح العملية.. وسارع مسئولو الحوثي وأنصارهم إلى إعلان النصر أيضًا، ونشروا هاشتاجًا على وسائل التواصل الاجتماعي يقول، (اليمن يهزم أمريكا)!!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.