والقلب من قلب الصعيد

سبع ساعات فى اتجاه الجنوب فى قطار سريع كانت كافية لاستعادة نصف قرن من الذكريات.. يمرق القطار فيما تتراقص أعمدة الكهرباء على الجانبين ويجرى النخل باتجاه معاكس.. القطار ينهب المسافة فيما يغادر النخل إلى بحرى.. لأول مرة منذ سنوات أتخيل النخل وهو يغادر.. فيما مضى كنت أظنه فى سباق.. مرح.. كنت وأنا طفل أحب الجلوس بجوار الشباك حتى أشاهد القمر وهو يغيب.. ثم أرى المسافة الشاسعة حتى الجبل وقد غرقت فى ظلام دامس.. لم تكن وقتها أعمدة الكهرباء تستطيع أن تمنحنا نورًا فجًا عندما يغيب القمر.. كان الضى شاحبًا وفقيرًا.. مثلنا هناك.حاولت وأنا فى عز النهار أن أستعيد أيام السفر المتواصل إلى القاهرة فى قطار فقير مكسور الشبابيك.. فى عز البرد.. قطار ملول كسول يقف لكل من يشاور له.. كنا نمضى فى القطار يومًا كاملًا حتى نصل إلى القاهرة.. فى عز رطوبة وزمهرير يناير.. لكن الرغبة فى اكتشاف مصر.. القاهرة وحكاوى الأهل الطيبين وضحكاتهم وحكاويهم لساعات عن أى شىء وكل شىء.. كانت تنسينا البرد والجوع وبُعد المسافة. الآن.. القطارات مكيفة وسريعة.. لكن القمر شاحب.. ولا نخيل يضحك ببشاير البلح.. الأهل اختفت ضحكتهم كما اختفى الباعة الجائلون.. كل مسافر فى يده موبايل.. دس عيونه فى شاشته مكتفيًا بعزلته.. لا أحد يكلم أحدًا.. يا له من سفر موجع! فى سوهاج.. أحب البلاد إلى روحى وقلبى.. عقلى لا يريد أن يتقبل ما جرى من تغيرات مدهشة.. حركة عمران مدهشة.. لكن الأسعار قاتلة.. المدينة لم تزدحم بعد.. لكن أسعار الشقق المليونية تقهر أى كلام عن نمط عمرانى مُشوه.. لم نعد نقيس أهمية البيت بجماله وهندسة البناء.. أصبحنا نقيس أهميته وقيمته بسعره.. خمسة ملايين وأكثر ثمن شقة صغيرة فى سوهاج المدينة الآن.. كيف؟ فى القرية.. التى هى قلب من قلب الصعيد والنيل وطن كما غنى عمنا فؤاد حداد.. الأسعار تجاوزت أى معقول.. قيراط الأرض يتجاوز النصف مليون رغم أنه غير صالح للبناء بحكم القانون الذى يمنع البناء على الأراضى الزراعية.. حولى الدرَّاسات الحديثة تدرس القمح.. إنه الآن موسم الحصاد.. أكثر الأيام بهجة فى بيوتنا لكنه لم يعد مُبهجًا.. ماذا حدث.. كنا ننتظر هذه الأيام بشغف لنشاهد النورج.. حمل أعواد القمح من الغيط إلى المسطاح بالجِمال لم يعد موجودًا.. لم تعد هناك جمال من الأصل.. عملية الحصاد التى كانت تظل أيامًا فيما نلهو ونضحك فى الأجران.. أصبحت تنتهى فى ساعات.. بلا لعب ولا فرح.. الميكنة الزراعية التى سادت قضت على أى بهجة.. لم يعد اليوم يوم عيد القمح. سهرات الصعيد القديمة لم تعد كذلك أيضًا.. لكن البيوت لا تزال مفتوحة والقلوب أيضًا.. تتعشم فى قادم أفضل.. حالة غضب غير مسبوقة من الجميع تجاه أنواع جديدة من المخدرات المخلقة.. وأشهرها الشابو.. هى حديث معظم سهراتنا.. الأهالى فرحون بمداهمات الداخلية الأخيرة لمعاقل تجار المخدرات.. لكنهم يتمنون لو أنهم صحوا وقد اختفى هذا الكابوس.. هذا الشابو الذى يردد الأهالى أنه جاء من الخليج مع العمال الصعايدة أصبح هَم البلد.. بعد أن تسلل إلى أيادى عدد غير قليل من الشباب.. يحكون عن حوادث مرعبة وعلاقات أكثر رعبًا فى البيوت الآمنة التى أفسدها هذا المزاج المدمر.. شاب يسرق والده ليشترى المدعوق.. شاب يسرق جهاز أخته ويبيعه بالقطعة.. حالات انتحار لا مبرر لها لطلاب فى جامعات مرموقة وأبناء عائلات كبيرة.. ورعب مسيطر من ذلك المجهول الذى لا علاج له.. كثيرون من عواقل البلاد يتحدثون عن مبادرات طيبة بالتعاون مع الحكومة لمحاربته.. لكنهم قلقون.. قلب الصعيدى أكثر قلقًا هذه الأيام. فى سهرات الصعيد يتحدثون عن كل شىء فى وقت واحد.. من أول الكرة والأهلى والزمالك.. وحتى حرب الهند وباكستان.. من ذكريات سهرات الشيخ محمد صديق المنشاوى إلى حفلات كروان الصعيد أحمد عادل وحتى قانون الانتخابات المنتظر.. هذه هى العادة.. ومن الطبيعى أن يكثر الحديث الآن عن الأحزاب السياسية الجديدة وتقسيم الدوائر والنواب الجدد.. الناس يرغبون فى تغيير الخريطة السياسية أملًا فى تغيير حياتهم. اختفت مظاهر حياة طفولتنا.. حل التوك توك.. الذى لا يعرفون من أين جاء بديلًا عن مواصلاتهم القديمة.. مبانٍ أسمنتية مكلفة حلت محل بيوت الطين الطيبة.. البيوت أكثر شحوبًا الآن.. والنخيل القديم تبدو عليه علامات شيخوخة تشبه ما حلّ برأسى من شيب وتعب. ورغم كل شىء.. لا يزال الصعيد قادرًا على اختلاق الأحلام.. يحلمون بمصانع كبيرة مثل مصنع السكر فى جرجا.. ومصنع الغزل الذى كان.. عادت زراعة القطن الذى اختفى لسنوات لكن المصنع لم يعد.. يحلم بعالم عربى أفضل فلا تزال فكرة السفر للخارج أملًا عند معظم شباب الصعيد.. الآباء كل واحد فيهم عنده قصة فى بلد عربى.. العراق.. ليبيا.. المملكة.. الكويت.. لكن الحال.. حال السفر.. لم يعد كما كان.. أصبح فى سوهاج مطار مهم.. لكن السفر لم يعد كما كان.. ولكنهم يحلمون.. لا يزالون يحلمون بعالم عربى أفضل. قريتى بها عدد كبير من الأطباء.. وأساتذة الجامعات.. والباحثين وطلاب الدراسات العليا وبخاصة من خريجى الأزهر.. ومن الطبيعى أن تكون سهرات هؤلاء مختلفة.. أحوال التعليم لا ترضيهم.. وأحلام السفر تداعب البعض منهم.. لكن هذه المرة إلى أوروبا.. أوروبا الغارقة فى صراع مختلف.. يحلمون بها لا لتكوين أموال وبناء بيوت جديدة ولكن لتحقيق حلم العودة بشهادات وعلم مختلفين.. نموذج مجدى يعقوب يطارد عقول الأطباء الشباب فى سوهاج وهذا أمر أسعدنى جدًا.. بقدر ما أرهقتنى معاناتهم من نقص الخدمات التى لا تمنحهم القدرة على إسعاد الأهل هنا. الصعيد لا يزال عامرًا.. والبيوت عامرة.. وأى فرصة للحلم لا يغادرونها.. لديهم صلابة تليق بهم.. وأحلام مؤجلة لكنها لا تغيب.. وعشق غير محدود لهذه الأرض التى تصعد إلى السماء كلما اتجهنا جنوبًا.. إنها مصر العليا.. والتى ستظل كذلك طالما فيها كل هذه المحبة.