اليمن أثناء النزاع: دولة بلا اقتصادات، وحالة غياب السلام تعزز الأزمات.

لا يحتاج اليمني إلى نشرات اقتصادية ولا تحليلات سوقية ليدرك عمق الكارثة التي تحيط به، فكل صباح، مع أولى خطواته خارج باب المنزل، يصطدم بحقيقة واحدة: لم تعد الدولة موجودة، ولم يعد الاقتصاد اقتصادًا، بل ساحة مفتوحة لنهب المنهوب، وتقاسم ما تبقى من فتات، بين أمراء الحرب، وتجار العملة، وأدعياء الوطنية.في غضون سنوات، تحوّل الريال اليمني إلى ورقة بلا قيمة. تهاوى أمام العملات الأجنبية بلا ضوابط، حتى بلغ سعر الدولار الواحد في بعض المناطق أكثر من 2800 ريال. لم يعد الموظف قادرًا على شراء كيس دقيق، ولا العامل اليومي قادرًا على تأمين وقود المواصلات.اختفت الطبقة المتوسطة، وابتلع الفقر من تبقى. أما المؤسسات الرسمية، فتفرّغت لطباعة العملة وضخها في سوق بلا سقف، دون غطاء حقيقي، ودون خطة أو رقابة، وكأنها تسعى عمدًا لتجويع الناس وخنقهم بالركود والغلاء.
احتكار الحوثيين للشمال.. اقتصاد التسلّط والخنق
في مناطق سيطرة الحوثيين، تحوّل الاقتصاد إلى أداة للابتزاز السياسي. تصادر الجماعة الإيرادية المليارات من الموانئ والضرائب والجبايات، دون أن تدفع منها فلسًا واحدًا للموظفين أو للخدمات.ليس هذا فحسب، بل عمدت إلى تجريم استخدام العملة المطبوعة من عدن، ما أدى إلى تقسيم السوق الوطنية إلى سوقين، وإلى فوضى في التداول وانعدام الثقة بكل ما هو رسمي.القيود الحوثية على التحويلات، ومضاربتهم في السوق السوداء، وسيطرتهم على شبكات الاستيراد، جعلت الشمال يعيش حالة من “الخنق الاقتصادي الموجه”، حيث المواطن يظل تحت الحاجة الدائمة، والدولة الحوثية تستثمر في الفقر لتثبيت سلطتها إنها سلطة تتغذى على معاناة الناس، وتفرض اقتصاد الحرب كأسلوب حياة.
الجنوب بين صراع النفوذ وتبديد الموارد

أما في الجنوب، فالصورة أكثر تعقيدًا. ورغم أن الحكومة المعترف بها دوليًا تتخذ من عدن مقرًا مؤقتًا، إلا أن واقع الحال يكشف عن غياب فعلي لأي إدارة اقتصادية رشيدة.تعجز السلطة عن ضبط السوق، أو فرض رقابة على تداول العملات، بينما تزداد معاناة المواطنين مع كل ارتفاع في الأسعار، وكل انقطاع في الكهرباء، وكل طابور انتظار أمام محطات الوقود.وفي حضرموت كبرى محافظات البلاد ومصدر الثروة النفطية تحوّلت المحافظة إلى ساحة مكشوفة لصراع النفوذ على الثروة.ورغم أنها الأغنى بمواردها النفطية، فإن سكانها يعانون من التهميش والحرمان، ويدفعون ثمن تحكم أطراف محلية بمقدراتها الحيوية. ويتحدث سكان محليون عن تحكّم زعامات قبلية بمصير الوقود وتدفقاته، واستخدامه كورقة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية ويبرز هنا اسم الشيخ القبلي عمرو بن حبريش الذي وجد في حالة الفوضى فرصة للإثراءوفي هذا السياق، يبرز بن حبريش كأحد أبرز رموز النفوذ المحلي الذي يتزعم ما يسمى بـ”الهبة الحضرمية”، ويتصرف كما لو كان دولة داخل الدولة.

يستحوذ على موارد الديزل، ويوزّعها وفق حسابات الولاء، ويعطل الكهرباء في بعض المناطق بينما تُستخدم العائدات في تشكيل كيانات مسلحة تابعة له خارجة عن سيطرة الحكومة في تكرار واضح لنموذج “أمراء الحرب”، حيث تُختزل الدولة في شخص، ويتحوّل النفط إلى سلاح تفاوضي.ويصفه مراقبون بأنه “أمير حرب بثوب زعيم قبلي”، يزاحم الدولة في مواردها، ويستثمر الأزمة لا لحلها، بل لتعميقها وتوسيع دائرة نفوذه.
صمت مركزي وتواطؤ ممنهج
في ظل هذا المشهد المعقد، تغيب الدولة المركزية، أو بالأحرى تُغيّب نفسها ولم تصدر أي خطة إنقاذ، لم يُفعّل أي دور رقابي جاد، لم تتشكل لجنة أزمة حقيقية، ولم يُحاسب أي مسؤول عن هذا الانهيار المالي غير المسبوق. كل طرف يتصرف كأن الأمر لا يعنيه، بينما المواطن وحده هو من يُلقى في الهاوية.يُطبخ الفساد في المكاتب، وتُنهب الموارد باسم “الحق القبلي” أو “الاستحقاق السياسي”، وتُمنح الامتيازات لمن يملك السلاح أو الولاء، لا لمن يقدم خدمة أو يبني مؤسسة.وفي الوقت الذي تُطبع فيه أوراق نقدية في صنعاء من قبل المليشيا الحوثية بالجملة، لا أحد يجرؤ على الحديث عن مستقبل الاقتصاد، أو عن كيفية حماية الناس من المجاعة القادمة.
المواطن بين المطرقة والسندان

اليمني اليوم لا يريد رفاهية، بل فقط الحد الأدنى من الحياة يريد كهرباء لا تنقطع، وسعر صرف لا يتقلب كل صباح، ووقودًا لا يُحتكر، وراتبًا لا يُؤجل، وخبزًا لا يرتفع ثمنه كل أسبوع.لكن هذه المطالب البسيطة باتت أحلامًا، في بلد ينهار كل يوم تحت وطأة الفساد، والتسلط، وتغوّل أمراء الحرب، وعجز من يدّعون أنهم يمثلون الدولة.إنها ليست مجرد أزمة مالية، بل أزمة وجود. فحين يفقد المواطن ثقته بعملته، وبحكومته، وبوطنه وتتحول البلاد الى ساحة عبث لأمراء حرب لا يرون في البلاد والعباد إلا مصدر للكسب غير المشروع فإنه يفقد كل شيء.