عندما يسكت المجتمع.. تعبر أمهات الفقراء عن معاناتهن

“لا أحد يحب الفقراء إلا أمهاتهم”.. عنوان لافت وصادم جدًا لكتاب يجعلك وجهًا لوجه مع واحدة من أعمق القضايا الإنسانية، وهى الفقر.. بوصفه عارًا ندرجه تحت عنوان القدر، ولا نجد له حلًا عادلًا.د. منى نوال حلمى فى كتابها الجديد.. تصطدم مباشرة بمضمون قضية الفقر لا كمشكلة اقتصادية، بل كصورة أخلاقية وسقوط مجتمعى متكامل. ولذا نجدها تكتب عبر فصول الكتاب المتعددة.. بجرأة وانفعال، بل بحزن واضح، عن تلك الفئة الاجتماعية التى لا يحبها أحد فعليًا، وإن رفعوا لها شعارات التضامن والتحية والعطف.يتسم أسلوب د. منى نوال حلمى ما بين السرد والتحليل، مستشهده بالواقع المصرى والعربى، الذى يجرم الفقير ضمنيًا فى بعض الخطابات، ويطلب منه التوبة فى مفردات الخطاب الدينى، ويعامله كرقم ضمن منظومة خطط.. لا تستفيد من غالبيتها. يكشف الكتاب.. تناقضات راسخة فى المجتمعات: إذ كيف يمكن لمجتمع يقدس العدل ويطالب به.. أن يسكت على الظلم الاجتماعى؟ ولماذا تحول الحديث عن الفقر باعتباره نوعًا من الوقاحة والابتزاز العاطفى؟ وهو ما ظهر فى المقارنة التى عقدتها بين الأمومة والفقر.. لتؤكد أن الحب الحقيقى والوحيد للفقراء، هو حب أمهاتهم لهم.. أنه الحب غير المشروط.تطرقت منى نوال حلمى عبر صفحات الكتاب إلى نقد قوى للخطاب الدينى عبر تحليل الواقع
الاجتماعى.. الذى يرى فى الفقر ابتلاء من الله، وليس ظلمًا مجتمعيًا عليهم. وتسأل: ما جدوى حث الإنسان الفقير على الصبر، بينما تبنى أفخم دور العبادة دون أن يسأله أحد عن طعامه أو سكنه؟ أنه خطاب دينى عاجز وفاشل.. يبرر استمرار تلك المأساة باسم الإيمان.تنتقد منى حلمى الرأسمالية المعاصرة التى لا ترى فى الإنسان سوى كائن منتج أو عبء فائض على المجتمع. تستحضر بعض الأفكار لتعيد التأكيد على أن الفقر ليس مجرد نقصًا ماديًا، بل هو نقصًا فى العدالة والإرادة والضمير الجمعى.لا تبحث الكاتبة عن تجميل الحقيقة. بل تعمدت أن تجرد الواقع، وأن تواجه القارئ بلغة إنسانية.. تقترب أحيانًا من الشعر بدون أن تفقد جدية المشكلة وأهميتها. ورغم الإحالات الفكرية المهمة فى الكتاب، فإن بعض القارئات والقراء قد يبحثون عن خطوات ملموسة، أو نماذج يمكن استلهامها، وهو ما لم تفصله الكاتبة بشكل كاف.وجدت فى هذا الكتاب صوتًا نسائيًا نادرًا فى قوته، يقول ما لم يقال من قبل، وينتصر لمن ليس لهم منبر وقدرة على الاعتراض والاختلاف. شعرت أن د. منى نوال حلمى لا تكتب عن الفقراء فقط، بل تكتب معهم، كما لو كانت واحدة منهم.. سليلة لأسرة فقيرة.. تريد أن تحب وأن يحبها أحد أيضًا، وتنتظر ألا يموت أولادها جوعًا.لفت انتباهى فى هذا الكتاب، ذلك الربط العميق بين الفقر والكرامة. فهى لا تطلب صدقات، بل كرامة إنسانية. لا تطلب شفقة، بل عدالة. وهى إذ تكتب، لا تكتب فقط باسم الفقراء، بل تنتقد سكوت الأغنياء، وتجاهل المؤسسات، وخداع السوشيال ميديا.نقطة ومن أول الصبر..
“لا أحد يحب الفقراء إلا أمهاتهم” ليس مجرد كتاب، بل هو دعوة للتفكير والوعى والتحليل والاستنتاج ومحاسبة النفس. كتاب يصطدم بحالة السبات التى نمر بها. كتاب يطرح سؤالًا أخلاقيًا قبل أن يكون اقتصاديًا: هل نحب الفقراء حقًا؟ أم أننا فقط نتحمل وجودهم لأنهم لم يقتحموا أبواب منازلنا بعد؟
إنه كتاب موجع، لكنه ضرورى. يمثل الصوت الصارخ فى البرية ليقول الحقيقة ويعلنها كما هى بلا خوف، وبلا مجاملة.