القاهرة في صمت والجيش في حديث.. أحداث ليلة 23 يوليو وبيان الثورة الأول

القاهرة في صمت والجيش في حديث.. أحداث ليلة 23 يوليو وبيان الثورة الأول

في ليلة صيفية بدت عادية، كانت القاهرة تنام على صخب مألوف، لكنها لم تكن تدري أن التاريخ على وشك أن يُعاد كتابته، وأن الساعات القليلة القادمة ستحمل أعظم تحوّل شهدته البلاد في القرن العشرين.ففي صمت الليل، وبينما الجميع يغطّ في نومه، كان الجيش المصري يتحرك بهدوء لكنه بحسم، ليُطلق شرارة ثورة أنهت عهدًا كاملًا من الملكية والفساد، وأطلقت العنان لعصر جديد من الحكم الجمهوري والاستقلال الوطني.

من مسطبة في أسيوط إلى قلب القاهرة.. الخلية الأولى للضباط الأحرار

بدأت الحكاية قبل ثلاث سنوات من الثورة، عندما قرر الزعيم جمال عبد الناصر تأسيس تنظيم سري داخل الجيش أُطلق عليه اسم “الضباط الأحرار”، بهدف استعادة الكرامة الوطنية التي هُدرت في معارك السياسة والهزيمة في حرب فلسطين عام 1948. وفي منزل جده بقرية بني مر بأسيوط، عقد عبد الناصر اجتماعات مع ضباط من مختلف التوجهات، ناقشوا فيها مستقبل البلاد وكيفية الإطاحة بالحكم الملكي، ليُنتخب في عام 1950 رئيسًا للهيئة التأسيسية للتنظيم.وبينما كانت الاجتماعات الأولى تُعقد في منازل ريفية بسيطة، منها منزل اللواء محمد نجيب، تطور التنظيم وتوسّع ليضم نخبة من الضباط الوطنيين، قبل أن يُتفق على تنفيذ التحرك العسكري في ليلة 23 يوليو 1952، في الساعة 11 مساءً.

الموعد الذي سبقته الدبابة.. اللحظة التي غيّرت مجرى الثورة

في منزل الضابط عبدالحكيم عامر بحي مصر الجديدة، اجتمع عبد الناصر ورفاقه استعدادًا لانطلاق التحرك، لكن ولظروف ميدانية طُلب تأجيل الموعد ساعة واحدة، ليكون في الواحدة بعد منتصف الليل، إلا أن المفاجأة كانت حين شاهد عبد الناصر وحدة عسكرية تتحرك قبل الموعد، بقيادة الضابط عبد المجيد شديد، الذي لم تصله تعليمات التأجيل، وكانت قواته جاهزة بالعتاد والمركبات.لم يتردد عبد الناصر، وانتهز عامل المفاجأة والزمن، وقاد الهجوم فورًا على مبنى قيادة الجيش، ليسيطر عليه بالكامل، ويتم اعتقال قيادات عسكرية كانت تدين بالولاء للقصر والإنجليز، في ضربة قلبت المشهد رأسًا على عقب، وأعلنت فجر الجمهورية في مصر.

أنور السادات يتلو صوت الثورة

مع انبلاج الصباح، خرج البكباشي أنور السادات من الإذاعة المصرية ليُلقي البيان الأول باسم اللواء محمد نجيب، قائد الثورة، وجاء في نصه:”اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجردًا من أية غاية”.كان البيان واضحًا في لغته، مباشرًا في أهدافه، ومطمئنًا في نبرته، مؤكدًا أن الجيش ليس انقلابيًا، بل قائد لحركة وطنية تهدف إلى تصحيح المسار، وقد تعهد البيان بحماية مصالح المواطنين، المصريين والأجانب، وفرض النظام بكل حزم في وجه أي محاولات تخريبية.لم تمضِ أيام حتى تنازل الملك فاروق عن العرش لنجله الأمير أحمد فؤاد، وغادر البلاد في 26 يوليو على متن يخته من الإسكندرية، ليُسدل بذلك الستار على عصر الملكية، ويبدأ رسميًا عهد الجمهورية الأولى، بقيادة محمد نجيب كأول رئيس لجمهورية مصر العربية.

23 يوليو.. من “الحركة المباركة” إلى ثورة تلهم الأمم

في بداياتها، لم يُطلق على التحرك العسكري اسم “ثورة”، بل كان يُعرف بـ”الحركة المباركة”، لكن مع الأيام، وتزايد التأييد الشعبي الواسع، أصبح اسم “ثورة 23 يوليو” عنوانًا لتحول جذري في مصر، حيث التحم الشعب مع جيشه في مشهد تاريخي فريد، تميز بالثقة المتبادلة والتلاحم الوطني.أحدثت الثورة تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، ألغت الإقطاع، ووزعت الأرض، ومهّدت للاستقلال الكامل عن النفوذ البريطاني، وأطلقت مشروع بناء دولة وطنية قوية، أصبحت ملهمة لحركات التحرر في العالم العربي وأفريقيا، بل واعتُبرت نموذجًا فريدًا للعلاقة بين الجيش والشعب، علاقة بُنيت على الصدق والانتماء لا على المصلحة والانتهازية.اليوم، وبعد مرور 72 عامًا على اندلاع ثورة يوليو، لا تزال هذه اللحظة حاضرة في الذاكرة الجمعية للمصريين، ليست فقط باعتبارها تحولًا سياسيًا، بل لأنها عبّرت عن روح وطنية أصيلة، أرادت لمصر أن تكون مستقلة، قوية، وذات سيادة.