الفخار المصري: قصة 6000 عام من الطين والإبداع والمعيشة

وسط الزحام والتطور الصناعي، تظل صناعة الفخار في مصر شاهدة على حضارة بدأت منذ آلاف السنين وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، كأقدم حرفة حية في التاريخ المصري، تعكس مزيجًا من الفن والتقاليد والهوية الثقافية الممتدة منذ أكثر من 6000 عام.
تشير الاكتشافات الأثرية في منطقة “نابتة بلايا” جنوب غرب مصر إلى أقدم آثار لصناعة الفخار تعود إلى ما قبل 5810 سنة، وتظهر تطورًا ملحوظًا في تقنيات الحرق والتزيين. ولاحقًا، وُجدت آثار فخار متطور في مواقع مثل مرمدة بني سلامة والفيوم، قبل أن تصل الحرفة إلى ذروتها في حضارة البدارى بأسيوط، حيث عُرفت الأواني السوداء ذات الحواف الحمراء بجودتها ودقتها.

مع نشأة الدولة المصرية القديمة، تطورت صناعة الفخار من أدوات منزلية إلى رموز اجتماعية ودينية. ظهرت أواني “الزير” و”القلل” و”الأبرمة” واستخدمت في حفظ المياه والطعام وحتى في طقوس الدفن.

وفي العصور الإسلامية، خصوصًا خلال حكم الطولونيين والفاطميين، ازدهرت الفسطاط كعاصمة الفخار، وتم إدخال تقنية “البريق المعدني” التي أضافت لمسات ذهبية على الأواني، لتتحول إلى تحف فنية عالية القيمة.في القرن العشرين، عرفت القاهرة منطقة “الجمالية” كأكبر تجمع لورش الفخار، حتى تم نقلها عام 1962 إلى “بطن البقرة”.

وفي الوقت ذاته، تأسس مصنع “جراجوس” في قنا بدعم من الآباء اليسوعيين والمعماري حسن فتحي، كواحد من أنجح تجارب تطوير الحرفة بصعيد مصر.

أما في قرية “تونس” بمحافظة الفيوم، فقد أسست الفنانة السويسرية إيفيلين بوري مدرسة دولية لتعليم الخزف في السبعينيات، ولا يزال مهرجان الفخار السنوي هناك من أبرز الفعاليات الفنية بالشرق الأوسط. وفي عام 2005، أُنشئت “قرية الفواخير” في الفسطاط بدعم دولي، لتكون مركزًا دائمًا للحرفيين، وتم تحديثها مؤخرًا بأفران صديقة للبيئة.

ورغم هذه النجاحات، تواجه صناعة الفخار تحديات تهدد استمرارها. ففي قرى مثل “جرزا” بالجيزة و”جريس” بالمنوفية، تسببت زيادة أسعار الخامات وتراجع الإقبال في غلق عدد كبير من الورش. ولا يتجاوز دخل بعض الحرفيين 40 جنيهًا يوميًا، مما ينذر بخطر اندثار المهنة.

وتحاول الدولة الحفاظ على هذا التراث عبر جهود رسمية، أبرزها مشروع “بيت التراث” بالشراكة مع اليونسكو، وحملة لحصر الورش النشطة وتوثيقها منذ 2020، بالإضافة إلى مساعٍ لتسجيل الفخار المصري ضمن قائمة التراث غير المادي.

تبقى صناعة الفخار أكثر من مجرد حرفة؛ إنها انعكاس للهوية المصرية، حيث تتجسد البساطة والجمال في كل قطعة طين تُشكل بحب، في استمرارية لا تنكسر أمام الزمن.