فيديو: عندما كان الذهاب للسينما في المنزل يكلف فقط جنيهين

من كتاب “كانت أيام.. حاجات من زمن فات” للكاتب زياد فايد، نسترجع واحدة من الحكايات التي توثق تفاصيل مصر كما عاشها الناس، لا كما كتبت في الكتب، حكاية تنبض بالذكريات وتمنحنا لمحة صادقة عن زمن مختلف، فيه عبق الماضي وسحر البساطة.في سبعينيات القرن الماضي، بدأ شريط الفيديو كاسيت يشق طريقه إلى الاستخدام المنزلي، مما أحدث ثورة في مفهوم “السينما داخل البيت” دون الحاجة إلى آلة عرض تقليدية، ومع دخول هذه التقنية الجديدة، شهدت صناعة السينما والتليفزيون تغيرًا جذريًا في منظومتها الاقتصادية، فبينما رأى صناع التليفزيون في الفيديو تهديدًا مباشرًا، استقبله محبو السينما كفرصة ذهبية لمشاهدة ما يشاؤون وقتما أرادوا، مجانا أو مقابل جنيهين فقط للفيلم الواحد!وكان للمنتج جمال الليثي قصب السبق في إدراك إمكانيات هذا الاختراع الجديد، خلال زيارة له إلى الكويت، لفت انتباهه جهاز الفيديو المعروض في أحد المحلات، وفورًا بدأ يفكر في كيفية استثماره لخدمة السينما المصرية، وكانت العقبة الأولى التي واجهته هي ارتفاع ثمن الجهاز، حيث بلغ سعره في ذلك الوقت نحو 3500 دولار، وهو مبلغ لا يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطن المصري، فبدأ باستيراد عدد محدود منه، تمهيدا للحصول على رخصة لتجميعه محليا، مما سيجعله متاحا بسعر أقل.لكن التحدي الأكبر تمثل في توافر المحتوى المناسب لهذا الجهاز، لحسن حظ “الليثي”، كانت لديه مجموعة من الأفلام التي يمتلك حقوق عرضها، كما قام بشراء أرشيف أفلام استوديو مصر التي كانت قد توقفت عن الإنتاج، ثم بدأ رحلة شاقة للتواصل مع كبار منتجي السينما في مصر، لشراء حقوق عرض الفيديو لأفلامهم، وهو مفهوم كان غريبا عليهم آنذاك، فباعوه له بأسعار زهيدة، غير مدركين أنه يشتري المستقبل.ولتحويل هذه الأفلام السينمائية إلى صيغة تناسب أجهزة الفيديو، سافر “الليثي” إلى لندن واشترى جهاز “تليسينما”، الذي يمكنه تحويل شرائط السينما (35 مم) إلى “فيديو 1 بوصة”، وهو الشريط الرئيسي الذي تنسخ منه أشرطة الـ VHS. وبمرور الوقت، كون الليثي مكتبة فيديو ضخمة تضم أكثر من 2500 فيلم عربي، إلى جانب أفلام أجنبية حصل على حقوقها من شركة أنيس عبيد.في تلك الأثناء، بدأ جهاز الفيديو ناشيونال الياباني يجد طريقه ببطء إلى البيوت المصرية، ومعه ظهرت نوادي الفيديو، التي كانت تتيح استئجار الأفلام مقابل رسوم بسيطة، ومع تنامي هذه الظاهرة، بادر الليثي بتقديم بلاغ رسمي إلى الشرطة ضد هذه النوادي، يطالب فيه بتطبيق حقوق المؤلف على نسخ الفيديو، وقدر حقوقه بنسبة 13٪ من سعر بيع النسخة للجمهور و7٪ من إيرادات الاشتراكات، وبحلول عام 1983، كان هناك 250 نادي فيديو في مصر، وهو ما دفع الدولة نفسها إلى التدخل والمشاركة في “الكعكة”، فأسست شركة تليمصر لتجميع أجهزة الفيديو محليا.لكن خلال 7 سنوات، ظل “الليثي” اللاعب الوحيد في السوق، حيث عمل على تحويل تراث السينما المصرية إلى صيغة الفيديو، وأدخل صناعة جديدة شملت الأجهزة والشرائط والمحتوى، مما مهد الطريق لظهور أفلام المقاولات لاحقا، رغم ضعف مستواها الفني، لكنها كانت ضرورية لتلبية الطلب المتزايد على شرائط الفيديو.ومع الوقت، لم يعد الفيديو رمزا للوجاهة الاجتماعية كما بدأ، بل تحول إلى قطعة ديكور منزلي عادية، وبقيت فقط بعض الشرائط الخاصة بالمناسبات، التي لم يعد لها قيمة تذكر إلا بعد نقلها إلى أقراص مدمجة (CD أو DVD).وفي خضم هذه الطفرة، وتحديدا في 12 مارس 1983، أصدرت مجلة “الإذاعة والتليفزيون” ملحقا خاصا بعنوان “عالم الفيديو”، كان يوزع مجانا مع المجلة، أعد الملحق كاتب هذا الموضوع، وضم 32 صفحة من الحجم المتوسط، وافتتح بمقال بعنوان: “الفيديو.. سارق الوقت الذكي”، تناول المقال كل ما يخص الفيديو من كيفية التسجيل المثالي، وتفادي العيوب الفنية، والمقاسات المناسبة للشاشات، إلى الفرق بين الشرائط الفرنسية والأمريكية.كما تضمن الملحق حوارًا خاصًا مع جمال الليثي، بوصفه رائد الفيديو في مصر، وإحصائيات مثيرة تشير إلى دخول 2 مليون جهاز فيديو كاسيت إلى مصر، منها فقط 750 جهازا دخلت رسميا، بينما تسلل الباقي عبر التهريب، وشرح طبيعة عمل شرطة المصنفات الفنية، إضافة إلى قائمة بأشهر نوادي الفيديو ومراكز الصيانة.واختتم الملحق بدراسة مهمة للمخرج مدكور ثابت بعنوان: “هل يقضي الفيديو على السينما؟”هكذا، دخل الفيديو إلى بيوت المصريين كـ”ضيف ثقيل”، لكنه غير قواعد اللعبة السينمائية بالكامل.