عذرًا، لن نحزن على أوطان خذلتها شعوبها.

قد يُغضب حديثى هذا البعض أو الكثير، وقد يصفه البعض الآخر بالأنانية. لكننا نمر بفترة تاريخية مفصلية فى تاريخ هذه المنطقة، وفى مثل تلك الفترات لا مجال لتجميل ما هو قبيحٌ ولا مجال للحياء من الحقيقة غضبَ من غضب وأنكرَ من أنكر. وعلى كل من لديه قبسٌ من تلك الحقيقة ألا يكتمها، ففى كتمانها إثمٌ وطنىٌ عظيمٌ فى حق مصر. (1)منذ ما يقرب من عامين وحين فوجئتْ قيادات الدولة اللبنانية باتخاذ مليشيا حزب الله قرارها بالانغماس فى حربٍ حتى دون مشورة تلك القيادات، كتبتُ مقالا مطولا بعنوان (الوطن الذى ذبحتَه الطوائفُ وليدا ودهسته المليشيا كبيرا). وفى ذلك المقال أوضحتُ بوثائق تاريخية طبائعَ شعوب تلك المناطق مما يسمى بالوطن العربى، وأوضحت اختلاف هذه الطبائع كلية عن طبائع المصريين. فهناك ومنذ التاريخ القديم – وقبل الديانات السماوية – كان الولاء دائما للقبيلة، فمن أجلها خيضت الحروب، ومن أجلها كانت تتغير خرائط التحالفات. ثم تجمل هذا الولاء القبلى الخالص بعد اعتناق أفراد القبائل للعقائد الدينية الجديدة – أو الاستيلاء على مناطقهم من قبل جيوش غزاة مسلمين – ليصبح ولاءً طائفيا دون أن يتحرر إطلاقا من النزعة القبلية. عبر أربعة عشر قرنا ماضية – وعكس ما يروجه البعض – لم تتغير شخصيات الشعوب، بل تداخل فقط فى القرن الأخير فى المشهد غزاةٌ جدد قرروا الإفادة من هذه الطبائع الشخصية. تاريخ منطقة الشام منذ أربعينات القرن الماضى كاشفٌ للحقيقة التى يراودنا البعض عن عقولنا لكى نتجاهلها. هو تاريخ طوائفٍ مخضب بدماء أبنائها فى صراعات بينية ألهبتها وزادتها اشتعالا قوى غربية (فرنسية إنجليزية) بالأساس، ثم أضيف لتلك القوى مفردات أخرى بعد الثورة الخومينية، وأخيرا زاحم تلك المفردات مليشياتٌ الطوائف السنية. هل هناك وطنٌ تعربد على أرضه لمدة عقودٍ دولٌ أجنبية – حتى لو كانت عربية أو مسلمة – ويستبيح طوائفَه باقى الطوائف ثم ننتظر أن يهب شعبه للدفاع عنه؟! وضد من إذا كانت كل دولة تعتدى عليه الآن وتسبيحه لها شيعة وظهيرٌ من أبناء نفس الوطن؟! (2)بعض المصريين يعيشون وهما كبيرا سببه بكل أسف عدم قراءة التاريخ – حتى التاريخ الحديث – بشكلٍ كامل حقيقى. يعتقد بعضهم أن فكرة القومية العربية التى نشأ بعضهم عليها هى حقيقة مقدسة فى كل الدول العربية وتعلو فوق كل انتماء طائفى وقبلى، ويكاد يصيبهم الجنون مما يشاهدونه اليوم على شاشات القنوات الإخبارية. لم يلاحظوا أن معتقدهم هذا لا يقوَ على الصمود أمام حقيقة أهم..أن القومية المحلية لكل شعب أو (الوطنية) – والتمسك بالدفاع عن شرف الوطن ككتلة واحدة – لم تقوَ على الصمود ولم تستطع هزيمة الانتماءات الطائفية، فكيف يجنحون إلى ما هو أبعد وينتظرون هزيمة تلك الانتماءات الطائفية أمام فكرة أكثر ميوعة اسمها القومية العربية؟! لو صمدت هذه الوطنية فى قلوبهم لما بقيت الجولان محتلة طوال تلك العقود دون عملية مقاومة واحدة! بل ومن قرأ تفاصيل حرب أكتوبر سوف يدرك الحقيقة المؤلمة التى صمتت مصر عن إلقاء الضوء عليها حياءً وتعففا وتمسكا بأمل أن تستفيق هذه الشعوب! سوف يدرك أن ما حدث فى معارك الدبابات فى الجولان ونتج عنه بقاؤها تحت الاحتلال لم يكن سببه نقص تسليح، بل كان سببه عدم صمود المقاتلين، ولدى وصفٌ إسرائيلى مشينٍ لذلك يعود لعام 74 فى كتاب (التقصير) الذى شرفتُ بعرضه منذ سنوات على صفحات جريدة الدستور. والآن فقط يمكن أن نجاهر بهذا السؤال..هل شارك فى استدراج مصر فى يونيو 67م مَن استغاثوا بعبد الناصر وأخبروه عن الحشود الإسرائيلية على حدودهم ثم ثبتَ كذبهم؟!(3)المأساة الحقيقية أن مصريين كثيرين حتى الآن يقتاتون على أكاذيب أصنام اليسار..بعد عزم السادات رحمه الله – وبعد أن حقق المصريون نصرا هو الوحيد حتى الآن فى المنطقة على الجيش الصهيونى – على خوض المفاوضات فى مشهد درامى أربك جميع قادة الصهيونية فى إسرائيل وخارجها، يقرر السادات كأى قائد منتصر شريف حر لا يخفى شيئا أن يذهب إلى دمشق للتشاور وإقناع من لم يثبتوا فى الحرب باستكمال العمل معا كفريق واحد فى المواجهة العسكرية وفى المفاوضات. وصل الجنون بهؤلاء أن يفكروا فى اعتقاله أو اغتياله لمنعه من السفر للقدس لأنه من وجهة نظرهم خائن وهم الأبطال! لكن التاريخ لا يستر الأفاقين..تكشف وقائع ما يسمى تأدبا بالحرب الأهلية فى لبنان – وهى فى الحقيقة مذابح طائفية وخيانات متبادلة واستباحات جماعية واستقواء بكل من يطلق عليهم أعداء الأمة العربية – أن الذين أرادوا اعتقال السادات أو اغتياله بتهمة الخيانة هم الخيانة المتجسدة فى أقبح صورها. قتلوا وسفكوا دماء مواطنين عرب انتصارا للطائفية. كل الطوائف تعاونت تعاونا عسكريا دمويا فى لحظة معينة مع قوات صهيونية. الذين أرادوا اغتيال السادات – وأبناؤهم من بعدهم – لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد الكيان المستبيح لأرضهم. سجنوا واعتقلوا وعذبوا وقتلوا كل من عارضهم من مواطنيهم وأصروا على دهس وطنٍ آخر عربى. حموا مقعد الحكم بقوات أجنبية روسية. كونوا جيشا يمثل تماما شخصية وطبائع الشعب الطائفى. وهرب من الانضمام لهذا الجيش آلاف الشباب – الذين لم يكونوا أقل طائفية من حكامهم – وقرروا أن يكونوا جيشهم الطائفى الخاص بهم أو المليشيات المسلحة. لم تكن ثورةً تطيح بنظام ديكتاتورى كما تروج القنوات الصهيو عربية، بل كانت مواجهات طائفية خالصة، لا يهم جنسية المقاتلين لكن المهم طائفتهم الدينية. قبل سقوط النظام الفاسد عبت هذه المليشيات من دماء الطوائف المستضعفة وباعت نساءها فى أسواق نخاسة حقيقية مصورة وموثقة! مئات الآلاف من الرجال والشباب اختاروا الهرب ولم يكونوا كلهم مطلوبين من قبل النظام كما يكذبون، لكنهم كانوا رافضين الانضمام للجيش الرسمى، وبعضهم لم يمثل له وطنه شيئا لأنهم وحتى بعد سقوط نظام بشار يرفضون العودة إلى ما نسميه نحن المصريون (سوريا!)(4)هل الدروز خونة؟! سؤالٌ عبثى لا توجد له إجابة منطقية..من منطقنا وطبيعتنا وشخصيتنا نحن المصريون أن كل مصرى يستقوى بدولة أجنبية هو خائن لمصر لن يفارقه عاره حتى موته مهما تكن مظلمته، لأن الوطن والانتماء للأرض عقيدتنا منذ آلاف السنين نموت من أجل الأرض..إن بيت الشعر القائل (بلادى وإنْ جارتْ على عزيزةٌ..قومى وإنْ ضنوا عليا كرام) لا وجود له بشكل حقيقى فى هذه المنطقة إلا فى مصر. لكن بمنطق وتاريخ تلك المناطق تكون الخيانة فقط للطائفة. لهذا السبب لم يستنكر حتى من يقيمون منهم هنا فى مصر مشاهدَ مقاتلى المليشيات التى تحكم هناك، وملامحهم، وألسنتهم ولغاتهم..أتت المليشيات بآلاف المرتزقة والمقاتلين من شتى بقاع الأرض ومنحتهم الجنسية وهم لم يطأوا هذه الأرض قبل ذلك! دأبت إسرائيل على العربدة فوق القصر الرئاسى هناك حتى فى وجود ذلك النظام السابق وجيشه وأسلحته الروسية.. أتت المليشيات لتحكم بعد أن فر الرئيس.. وفى يومها الأول كان المنتمون لنفس طائفتها – حتى أولئك المقيمين فى مصر – يرقصون ويغنون بينما تهرس إسرائيلُ الأسلحة والمبانى والمخازن بدقة شديدة! ما طالعناه فى ذلك اليوم على صفحات السوشيال ميديا كان عبثا خالصا..مصريون يشعرون بألم وغصة وغضب وهم يتابعون مشاهد التدمير على الهواء مباشرة، بينما مشاهد الرقص والاحتفال والاحتفاء تغطى شوارع عاصمتهم وحاولوا فعل ذلك فى شوارع القاهرة! وكانت ترقص معهم قنوات عربية! بالأمس واليوم عصابات المليشيات تقتل وتهين أفراد طائفة الدروز وكأنها تمنح الإشارة لإسرائيل لاستكمال ما بدأوه سويا فى اليوم الأول! أى مشهد من تلك المشاهد السابقة ليست خيانة لما كان يسمى بسوريا؟! من هربوا من بلادهم خونة.. ومن شاركوا فى أى مشاهد طائفية خونة.. مليشيات الإسلام السياسى السنى أو الشيعى بكل مسمياتها خونة بشكلٍ قاطع وعملاء ومرتزقة..لم يتغلبوا فى أى مشهد إلا وكان هذا التغلب مقدمة لاحتلال أو تمزيق بلدٍ بعينها..الرئيس الذى باع وساوم وهرب هو ومن معه خونة..وسائل الإعلام التى شاركت فى خديعة تقديم قائد المليشيا وقادة الدول الذين قدموه كخادمٍ مطيع لسيدهم الكاوبوى خونة..رجال الدين من كل الطوائف خونة لأنهم من قاموا منذ استقلال هذه البلاد عن الاستعمار العسكرى الغربى الصريح بتمزيقها ودهسوا بفتاواهم كرامة وشرف هذه البلاد..الذين قادوا – بكل هذه المشاهد وعبر السنوات الماضية – وطنهم لأن يصبح هكذا وكما رأينا اليوم بهذه الاستباحة المذلة خونة! من هناك يمكنه أن ينجو بنفسه من عار خيانة تلك الأرض؟! هذا هو السؤال الذى يبدو أكثر منطقية!(5)عفوا فلن نُستدرج للانغماس فى بكائية دمشق، لأن من باع دمشق هو شعبها! الدولة المصرية تتصرف بمسؤليتها كدولة وتقف ضد عربدة إسرائيل فى المنطقة كمبدأ بغض النظر عن أى دولة نتحدث. كان هذا دافع مصر لاتخاذ موقفها الطبيعى والمنطقى فى استنكار أى عدوان إسرائيلى على أى دولة مهما تكن التفاصيل. لكننى هنا أتحدث عن بعض نخبة المثقفين والإعلاميين. لا تحدثوننا عن أفكارٍ وهمية لا وجود لها سوى فى عقول بعضكم. لا تحاولوا توجيه مشاعر المصريين توجيها أعتبره سلبيا تماما. أى بكائية الآن يكون عنوانها مثلا (هنا دمشق) من القاهرة سوف تكون سقطة كبرى، وقد يترتب عليها نتائجٌ كارثية مثل ابتزاز عاطفة المصريين للضغط على الدولة للتراجع عن قراراتها الصائبة فى ملف المقيمين الأجانب على أرض مصر. هل على المصريين أن يدفعوا ثمن انتهاك أوطانٍ خانتها شعوبُها؟! عفوا فنحن الآن نرفض هذا تماما وبشكلٍ مطلق. نرفض أن نبكى أوطانا لم تصنها شعوبها. نرفض أن ندفع ثمنا اقتصاديا أو حتى نفسيا بالألم لانتهاك شرف أوطانٍ لم تمثل لشعوبها أكثر من فندق إقامة. لقد مات الرئيس عبد الناصر رحمه الله منذ أكثر من نصف قرن، ولقد خاضت مصرُ بعد موته حربا كبرى وقدمت دماء وأرواح أكثر من عشرة الاف شهيد ثمنا لاسترداد الأرض التى تم احتلالها بسبب مواقفٍ مصرية شريفة اتخذت فى عهده، لكن باقى الأطراف فيها لم تكن على نفس القدر من الشرف!نحن لا نؤمن إلا بالقومية المصرية أو الوطنية المصرية. مصر فقط هى التى نفرح أو نحزن من أجلها. وذلك لأسبابٍ عادلة تماما. أن مصر تعرضت لنفس ما تعرضت له الأوطان الأخرى فى المنطقة. وأن المليشيا قد وصلت لسدة الحكم هنا كما وصلت هناك. لكن المصريين فعلوا ما لم تفعله الشعوب الأخرى. نحن قمنا بحماية بلادنا وتخلصنا من حكم المليشيا قبل أن تصل لما رُسمَ لها. ولم يكن خلاصنا هذا مجانيا ناعما. كان خلاصا بالدم..دماء الالاف من أبنائنا وإخوتنا بين شهيدٍ ومصاب من الشرطة والقوات المسلحة والمواطنين. وكان خلاصا بالصمود الاقتصادى والتقشف والتخلص طواعية من كثيرٍ من مفردات الحياة ونحن راضون تماما بهذا الثمن. ونحن نعرف أن مصر ما تزال فى ذروة المواجهة والتحدى، ونحن على استعدادٍ لخوض تلك المواجهة مرات ومرات حتى الرمق الأخير..لكن هذا الرضى مشروطٌ الآن بأن يكون كل ذلك خالصا لمصر وليس لأوطانٍ أو شعوبٍ أخرى.أقول تحديدا لبعض المثقفين والإعلاميين ورجال الدين، بدلا من محاولة ابتزاز مشاعر المصريين من أجل قضايا غير مصرية، وشعوب لم تؤمن أصلا بما نؤمن به، عليكم أن تدرسوا أولا طبائع وتاريخ الشعوب حتى تدركوا الفروق بين بلادكم – مصر – وبين غيرها. من العدل التام الآن أن نطالب نحن المصريين بأن نتخلص من وجود هؤلاء (المؤمنين بأن الطوائف فوق الأوطان). علينا أن نضع نقطة نهاية لوجودهم على أرض مصر، لسبب بسيط أن كل مشهد تقشعر له الأبدان مما نرى على شاشات قنوات الأخبار هناك كان يمكن أن يحدث هنا فى مصر، وأن هؤلاء المقيمين على أرض مصر كثيرٌ منهم ينتشى بهذه المشاهد ويتمنى لو أنها تحدث فى مصر، وهذا ليس دربا من الخيال أو اتهاما بالباطل، لكن هذا ما قرأناه بالفعل على بعض صفحات هؤلاء، وبعضهم قالها صراحة..متى نرى الطائرات تضرب قصر الرئاسة المصرى..هذه أوهامهم – وما يتمنونه فى قلوبهم المكتظة بالسواد تجاه الوطن الذى آواهم وأطعمهم أكثر من أربعة عشر عاما- ونحن لا نهتم بالرد عليها ولا نكترث لها لأنهم لا يدركون الفوارق بين الأوطان والدول وبين فنادق الإقامة الطائفية. لكننا نكترث فقط ببلادنا وتطهيرها من هذا الدنس والخطر المحتمل..مصر أرضٌ طاهرة تأنف كما يأنف شعبها من الخيانة، ومن حق هذه الأرض أن تظل هكذا!فى فيلم (حب فى الزنزانة).. وفى مشهدٍ عبقرى فى النهاية..يكتشف البطل (عادل إمام) الذى قبل أن يُسجن بدلا من رجل أعمال فاسد، أن صديقه (يحى الفخرانى) قد باعه لخصمه رجل الأعمال المتجبر (جميل راتب) فيتشاجر معه وينكر عليه فعلته فيرد الصديق..إذا كنت إنت بعت نفسك!