مصر وإفريقيا وسد النهضة: القصة الحقيقية

محمد على..جمال عبد الناصر..محمد فائق..السادات..بطرس غالى..مبارك..وفد الدبلوماسية الشعبية..مرسى..عدلى منصور..السيسىهؤلاء هم أبطال وشخوص هذه القصة فى تاريخ مصر الحديث. منهم من فطن وأدرك حقائق الجغرافيا السياسية مبكرا جدا فبادر إلى تدشين سياسة مصرية حكيمة تحفظ لمصر مفردات وجودها، ومنهم من سار على نفس الدرب ولم يفرط بل اجتهد وأضاف، ومنهم من أهمل فأفقد مصرَ بإهماله ما أنجزه السابقون، ومنهم من لم تُعفِه حسن نيته من ارتكاب حماقات.. ومنهم من خان صراحة.. وأخيرا منهم من ساقته الأقدار رحمة بمصر ليصون وينقذ ويركض محاولا إدراك ما فرط فيه آخرون بالإهمال أو الخيانة. وعلى الضفة المضادة لمصر هناك..إنجلترا..الولايات المتحدة..إثيوبيا..ودائما فى العقود الأخيرة هناك إسرائيل!(1)(لقد كان التواجد المصرى القوى فى إفريقيا هو الحافظ لحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل والضامن لاستمرار العمل بالاتفاقيات الموقعة بين دول حوض النيل. إن التواصل الفكرى والحضارى والاقتصادى مع الدول الإفريقية أصبح فريضة حضارية. لماذا لا تتوجه قوافل المثقفين والمبدعين والفنانين جنوبا؟ لماذا لا يكون هناك اتفاقات توأمة ثقافية بين مصر وهذه الدول؟ رجال الأعمال المصريون الذين أثروا وكونوا أو ضاعفوا ثرواتهم فى مصر لماذا لا يتوجهون باستثمارات حقيقية ضخمة لهذه الدول؟ وأن يكون استثمارا حقيقيا وفى مجالات استراتيجية واقتصادية لتضمن الوجود المصرى الدائم لعقود طويلة؟)كانت هذه فقرة من كتابى الصادر صيف 2010م وبه ملفٌ كامل عن قصة سد الألفية – أو النهضة فيما بعد – وعن الأزمة المصرية فى إفريقيا. منذ أيام قليلة توجت مصر جهودها بدخول اتفاقية التجارة الأفريقية الحرة حيذ التنفيذ. وهى الجهود التى بدأها السيسى منذ توليه السلطة واستطاع من خلالها ومنذ حوالى خمسة سنوات إطلاق منطقة تجارة حرة إفريقية. وكان توقيع الاتفاقية عام 2019م هو تتويج لمباحثاتٍ بدأت منذ انتخابه رئيسا 2014م. وقعت على الاتفاقية أربعة وخمسين دولة وبدأت الدول فى التصديق عليها تباعا حتى هذا العام حيث دخلت حيز التنفيذ. وبين عام 2010م حين صدر كتابى هذا، وبين العام الحالى حيث نجحت مصر فى خطوتها هذه كواحدة من خطوات أخرى، مرت أزمة سد النهضة – كجزء من أزمة كبرى – بثلاثة مراحل من جملة خمسة مراحل تمثل علاقة مصر بدول القارة وخاصة دول حوض النيل على مدار مائتى عام. فى 2010م كنت أشعر بغضبٍ وإحباطٍ شديدين بعد ما علمته على مدار عامين هما فترة إعداد المادة الوثائقية لكتابى. غضبٌ وأنا أقرأ هذا السيل من المعلومات والحقائق التى تدين بصراحة قاسية دولة مبارك بتهمة محددة هى الإهمال الذى وصل إلى درجة تهدد أمن مصر الإفريقى بشكلٍ صارخ، وإحباطٌ لأن غالبية المصريين وحتى صدور كتابى لم يكونوا – حتى مجتمع النخبة المثقفة – يدركون شيئا عن قصة السد وما وراءها ولا يدركون عظم الخطر. ولم تكن أخبار اجتماعات وزراء الرى لدول حوض النيل فى الإسكندرية صيف نفس العام تحظى باهتمام يتناسب وما تمثله من خطورة. عصر مبارك هو بامتياز عهد إهمال وانسحاب مصر من محيطها الإفريقى لتحتل إسرائيل كل موضع قدمٍ تركته مصر. (2)بعد تفجر الأوضاع السياسية فى مصر بعد الخامس والعشرين من يناير 2011م، كانت مرحلة الإرتباك وانشغال الدولة المصرية بالدفاع عن بقاء مصر ذاتها، وفى تلك المرحلة الملتهبة صُدم المصريون بمشهد تدشين سد إثيوبيا فى مارس من نفس العام. وبحسن نية تصل لدرجة الرعونة اتفق جمعٌ من نخبة مصر على تشكيل ما يسمى بوفد الدبلوماسية الشعبية ليقوموا بإدانة مصر أمام مسؤلى الحكومة الإثيوبية. ولا أعفى بعضهم ممن قدموا أنفسهم كمشاريع ساسة مدنيين من المسؤلية التاريخية التى أقر بها أحدهم بعد ذلك بسنوات فى تصريحات صحفية منشورة، لكن آثار بعض المواقف الكبرى لا يمكن محوها بأثرٍ رجعى. هى إذن كانت مرحلة الفوضى والارتباك وإنشغال مؤسسات الدولة بعبءٍ ثقيل. ثم قادت هذه المرحلة إلى ما هو أسوأ وهو مرحلة الخيانة المباشرة الصريحة أثناء حكم جماعة الإخوان لمصر. مشهد محمد مرسى المذاع على الهواء مباشرة وهو يقدم – بصفته الرسمية وقتها – مصرَ كدولة متآمرة. وقت أن حدث هذا المشهد حاول البعض الاستخفاف بعقولنا بوصفه يمثل سذاجة مرسى ولا يمثل خيانة! لكن، وبعد أكثر من عشر سنوات تتأكد الخيانة بتصريح دونالد ترامب بضلوع بلاده فى مشهد السد وقت تولى أوباما. وحين نضع هذا الاعتراف بجانب علاقات الجماعة الرسمية الموثقة مع تلك الإدارة الأمريكية وقتها وتواطئهم على أرض مصر ينتفى تماما وصف مشهد مرسى عن سد النهضة بالسذاجة، كما ينتفى منطقية أى تحرك منه أو من جماعته بعيدا عن التنسيق مع إدارة أوباما التى كانت أشبه بالراعى الرسمى لتسليم السلطة فى مصر للجماعة بصفتها ممثلة التيار المتأسلم الذى وقع اختيار تلك الإدارة عليه لتسليمه منطقة الشرق الأوسط لكى ينفذ باقى الخطة. ثم نصل إلى المرحلة الثالثة – بعد مرحلتى الإهمال والخيانة – إلى مرحلة الإنقاذ الوطنى. لا يوجد أى مسمى آخر يصلح لوصف ما تابعتُه يوما بيوم فيما يخص ملف سد النهضة وملف مصر الإفريقى بعد تولى السيسى للحكم. لأننى قمتُ بإصدار طبعة ثانية محدثة من نفس الكتاب عام 2019م ولقد ألزمنى هذا – بخلاف المتابعة الواجبة كمواطن مصرى – بتتبع الملف وما تقوم به الدولة المصرية رسميا. بين مشهد الإحباط عام 2010م، وبين مشهد الرضا التام حين طالعتُ أخبار دخول اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية حيز التنفيذ، تطل الحقيقة الساطعة بعِظم ما تحقق فى عشر سنوات من الجهد الوطنى المخلص غير العشوائى والمبنى على إدراكٍ مصرى مؤسسى رئاسى كامل لحقيقة الأزمة وجذورها وعلى امتلاك هذه الإدارة لرؤية حقيقية لا أملك أمامها سوى أن أتوجه بشكرٍ مستحق لهؤلاء الرجال.(3)لن يدرك المصريون ما يحدث حاليا بشكلٍ صائب منصف دون أن تتاح لهم نظرة عابرة على ما سبق هذه المراحل التى أشرتُ إليها. وبعيدا عن التاريخ القديم – رغم أن قراءته فرض عين على المصريين – يمكن القول أن محمد على باشا هو من بادر فى العصر الحديث وفطن إلى أهمية التواجد المصرى عند منابع النيل، وقام بمغامرة شهيرة إلى هناك. وبغض النظر عن نتائج حملته تلك، فإنها هى التى منحت لمن خلفوه من حكام هذا الدرسَ الاستراتيجى الهام. ومنذ ذلك التاريخ وبعد أن استطاعت إنجلترا أن تحقق أطماعها فى احتلال مصر، فإنها أيضا تعلمت ذلك الدرس من محمد على وأدركت أن السيطرة على منابع النيل وبعيدا عن مكاسبه المباشرة، فهو يمكنه أن يمثل ورقة ضغط مستدامة على مصر. لقد عبر كتشنر عن ذلك صراحة بأن (خطط تخزين مياه النيل الأبيض والأزرق ورقة سياسية يمكن من خلالها حل أى مسألة تُثار مع أو ضد مصر)، ولذلك فقط كانت توضع تحت تصرفه. كانت بريطانيا حاضرة فى اتفاقياتٍ كثيرة موقعة بين دول حوض النيل سواء اتفاقيات ثنائية، أو مجمعة. لكن اتفاقية 1959م – أى بعد جلاء الاحتلال البريطانى عن مصر – هى التى حددت حصة مصر فى مياه النيل 55 ونصف مليار متر مكعب. وإذا كان محمد على هو الذى بادر ودشن لسياسة مصرية ناجحة فى إفريقيا، فإن كلا من عبد الناصر والسادات – دون خوض فى أى جدل سياسى لتقييم عصريهما – قد سارا على نفس الدرب ولم تغب عنهما هذه الحقيقة الاستراتيجية. عبد الناصر هو من أعاد للوجود المصرى حيويته وحرره من نظرة بعض الدول الإفريقية، وألقى عليه بوهج شعبى جعل كثيرا من قادة وشعوب هذه الدول ينظرون إليه كبطل أو فى أقل تقدير كصديق حقيقى مؤيد لحقوق الشعوب الإفريقية فى التحرر من هيمنة الاستعمار الغربى لدرجة أن رئيس إحدى دول حوض النيل كان لا يلقبه حتى سنوات قليلة مضت حين يتحدث عنه إلا بلقب (عمى عبد الناصر)، كون هذا الرئيس الإفريقى عرف وهو صغير عن دور عبد الناصر فى بلاده وقابله وهو فى ذروة شبابه. أوكل عبد الناصر إلى أحد رجال مصر المخلصين (محمد فائق) هذا الدور الهام فى عمق مصر الإفريقى. أصبحت مصر بشكل حقيقى صديقة للدول الإفريقية وتمثل لهم رمزا للتحرر الوطنى وقيم الشرف والمحبة. ثم نصل لعهد السادات الذى اختار أحد دبلوماسى مصر المشهود لهم بالكفاءة ليقوم بهذا الدور فى العمق الإفريقى وهو بطرس غالى الدبلوماسى الأشهر وأمين عام الأمم المتحدة بعد ذلك. مثل الوجودَ المصرى شركاتٌ ومهندسو رى أكفاء ساهموا فى إقامة مشاريع رى وزراعة فى بعض دول حوض النيل. كانت شركات قطاع عام تمثل الدولة المصرية وتقوم بتنفيذ أعمال تنموية هناك وتحفظ لمصر أمنها وحقوقها، وكان المهندسون يمثلون امتدادا لمهندسى الرى المصريين، ويعرفون كل شىء عن المشاريع المقامة على حوض النيل، ويساهمون فى تشغيلها ويدعمون التعاون المصرى الإفريقى ويحولون دون تواجد أطراف معادية تريد تفجير تلك العلاقات وأقصد مهندسى وخبراء الكيان المعادى لمصر. إلى أن يتغير كل شىء بعد سنواتٍ قليلة من تولى مبارك للحكم. فيبادر بإنهاء أعمال شركات مصرية قوية فى بعض دول إفريقيا ومنهم شركة النصر. ويتم الاستخفاف بالتمثيل الدبلوماسى المصرى هناك لصالح الانغماس فى صراعات القضايا العروبية. وأشار إلى ذلك صراحة د.بطرس غالى بعد تفجر الأزمة حيث نصح دولة مبارك بأن يتم الاهتمام بتعليم الدبلوماسيين للغات المحلية الإفريقية إن كانوا سيعملون هناك. بدأ الانسحاب المصرى أو عدم أخذ العلاقات الإفريقية بالجدية اللازمة، واتكأ نظام مبارك – فى إدارته للمباحثات مع إثيوبيا – على قوة موقف مصر القانونى الدولى، دون أن يدرك هذا النظام الذى وصل فى عام 2010م إلى ما يشبه مرحلة الجمود الفكرى التام أن هذه القوانين بمفردها لا تصون حقا لدولة ما لم يكن لهذه الدولة من القوة والحيوية ما يعضد موقفها القانونى العادل. وهذا ما حدث حين تغير هذا النظام فوجدت إثيوبيا من الدول من يمولها أو يستخدمها – كما قال ترامب – من أجل تحقيق مخططاته الخاصة بالمنطقة. فالقوانين الدولية بمفردها لا تكفى. هذه هى الحقيقة التى لم يستوعبها نظامُ حكمٍ كان بالفعل فى مرحلة الموت الإكلينيكى قبل سنوات من وصوله لنقطة الصدام مع شعبه. (4)فى القرن التاسع عشر – وفيما يخص ابتزاز مصر عن طريق نهر النيل – كانت إنجلترا، بينما فى القرن العشرين كانت الولايات المتحدة! قصة السد الإثيوبى هى قصة سياسية فى المقام الأول، وهى جزءٌ من علاقة مصر بدول إفريقيا ومدى قوة الحضور المصرى. نشأت فكرة بناء سد إثيوبى يهدد أمن مصر المائى ببداية أمريكية خالصة، كما انتهت آخر فصولها حتى الآن بنهاية أمريكية خالصة باعتراف دونالد ترامب أكثر من مرة فى غضون أسابيع قليلة، فقال فى أول مرة أن إدارة أوباما هى التى مولت السد، ثم قال مؤخرا أن بلاده مولت بناء السد قبل حدوث اتفاقٍ بين مصر وإثيوبيا وأن هذا كان خطأ، وعلى الإدارة الأمريكية البحث عن حل وتحدث عن أهمية النيل للمصريين! يفترض ترامب أن المصريين على درجة من السذاجة لتصديق أن تمويل أمريكى للسد كان خطأ ولم يكن جزءً من مؤامرة، كما يتحدث عن أهمية النيل للمصريين بعد أن استطاعت الإدارة المصرية بالفعل أن تعبر بمصر مرحلة الخطر المائى أثناء سنوات ملء خزان السد. لكن كان ضروريا جدا أن تبادر مصر بإعلان رضاها بهذه التصريحات لأن مصر التقطت الخيط جيدا. كانت البداية بعد صدام أمريكى مصرى حين أصرت مصر على بناء السد العالى بخبراء سوفييت. فقررت الولايات المتحدة الضغط على مصر حيث أعلنت رسميا قيامها بدراسات فنية لإقامة أربعة سدود على منابع نهر النيل. ثم قام مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح – وهو إحدى الإدارات التابعة للخارجية الأمريكية – بتحديد الموقع النهائى لسدٍ ضخم بعد القيام بمسح فنى للنيل الأزرق، وهذا السد هو الفكرة الأولى لما يعرف اليوم بسد النهضة. وكان السد فى تصميمه الأمريكى الأول بسعة تخزين 14مليار مترمكعب. وفى عهد السادات وبعد موقفه المعروف من الاتحاد السوفيتى حاول الروس ابتزاز مصر سياسيا بالتلويح ببناء سد على النيل الأزرق! وهو الابتزاز الذى رد عليه السادات بعبارته الشهيرة بتهديده بقصف هذا السد حال بنائه. العلاقات السياسية بين بعض الدول تشمل بعض الجوانب النفسية. وما بين مصر وإثيوبيا هو علاقة معقدة تاريخيا تشمل جوانب إيجابية، وتشمل كثيرا من العقد النفسية لدولة بحالها تجاه مصر. تراود إثيوبيا أوهام انتزاع مكانة مصر الإفريقية، وترى أن ذلك لن يكون سوى بإضعاف مصر، ومحاولة امتلاك أوراق ضغطٍ سياسية عليها عبر مياه النيل رغم إدراك إثيوبيا لقوة موقف مصر القانونى. لكنها تلجأ لتحقيق مآربها لسياسة عبر التخفى خلف قوى عظمى مثلما حدث فى الستينات والسبعينات ثم مؤخرا فى عصر أوباما.(5)فى السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك استجابت مصر لدعاوى دول حوض النيل، وانضمت لما يسمى (مبادرة دول حوض النيل). كانت استجابة مصر طبيعية لمد جسور التعاون بين دول حوض النيل لتحقيق التنمية لشعوب هذه الدول، بينما كان غرض إثيوبيا محاولة استدراج مصر لتغيير بنود بعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بمياه النيل. وخاصة البنود الثلاثة المتعلقة بحصة مصر فى المياه أو ما يعرف ببند الأمن المائى، وبند حق مصر فى الموافقة أو رفض أى مشروع على منابع النيل إن كان سيؤثر على أمنها المائى، وأخيرا بند شرط الموافقة على أى قرار لدول حوض النيل بالإجماع أو الأغلبية شريطة موافقة دولة المصب مصر ومعها السودان. عشر سنوات كاملة من المباحثات رفضت مصر خلالها المساس بهذه البنود حتى نصل لصيف 2010م حين وقعت دول حوض النيل اتفاقية عنتيبى بدون مصر والسودان بما يتعارض مع القانون الدولى الملزم لدول حوض النيل بالحصول على موافقتيهما. ما يؤخذ على نظام مبارك فى هذه السنوات العشر هو الاعتقاد الخاطىء بأن الموقف القانونى المجرد يكفى لحسم حق مصر. وأن هذا النظام لم يدرك أن قصة السد متصلة بالقصة الأشمل وهى التواجد المصرى القوى فى دول حوض النيل، وأن هذا النظام قد ارتكب خطيئة وطنية كبرى بأنه منح مساحات تواجد كانت مصرية خالصة لصالح قوى معادية لمصر. وأن هذه القوى كانت بالفعل قد توافقت على تنفيذ خطط الستينات والسبعينات. فالوقائع تثبت – منذ توقيع اتفاقية عنتيبى – أنه وحتى لو ظل مبارك فى الحكم عام أو اثنين بعدها، فإن إثيوبيا كانت على وشك الحصول على تمويل دولى للشروع فى بناء السد وأنها كانت مؤيدة بحماية أوباما. لكن سقوط الدولة المصرية فى تيه الفوضى السياسية منح إثيوبيا فرصة ذهبية للإسراع فى خطواتها. فحين يتم تدشين السد ووضع حجر الأساس له بعد حوالى شهرٍ واحد من تنحى مبارك فهذا يعنى أن كل شىء كان متفقا عليه تماما. (6)فى ذروة نشوتها بالحالة المصرية عام 2011م سقطت إثيوبيا فى فخ ذاتى لن تخرج منه بسهولة أو على الأرجح لقد ورطت نفسها فى ورطة فنية واقتصادية كبرى لن تستطيع الخروج منها. لقد ألقت بكل خرائط وتصميمات السد القديمة جانبا، وقامت على عجل بتنفيذ تصميمات جديدة تقفز بسعة تخزين السد من 14 مليار متر مكعب إلى ما يفوق 70 مليار متر مكعب. لقد أدارت إثيوبيا ظهرها لكل الدراسات الفنية الدولية الرسمية المحايدة والتى حذرت من التداعيات الجيولوجية لهذا السد الكارثى على القرن الإفريقى. لقد تجاهلت وجود الفوالق والأخاديد الجيولوجية العملاقة بالقرب من موقع السد، وتجاهلت الدراسات الخاصة بمدى قدرة السد بعد تشييده على توليد الكهرباء أو تحقيق وعود التنمية التى تم تسويقها للشعب الإثيوبى. والآن – ونحن نتابع يوما بيوم ورطة إثيوبيا الفنية والاقتصادية بعد تورطها فى الاستدانة لتمويل سدٍ سياسى لم ولن يحقق أيا من أهدافه لهذا الشعب المخدوع – نتأكد من أن كل تلك الدراسات كانت صائبة. وهى دراسات تم بعضها بعد الشروع فى بناء السد بناءً على طلب مصرى وتم تمويلها بالمشاركة بين الدولتين. منها دراسات من مكاتب فنية فرنسية وهولندية وإنجليزية. هناك تفسيران لهذه الخطوة، الأول يفترض أنه خطأ سياسى ساذج أراد انتهاز الفرصة وخق أمر واقع يُفرض على مصر، والثانى أنه خطوة مقصودة من جانب الكيان الصهيونى الحاضر بقوة فى المشهد وذلك تمهيدا لتحقيق أساطير وخرافات دينية تلمودية بخراب مصر بفيضان جارف. أى تشييد سدٍ لكى ينهار فتجرف مياهه فى طريقها أجزاء من السودان وصولا للهدف الأساسى وهو مصر. ولو كان هذا ما حدث بالفعل فنحن أمام مجموعة من المجانين الأغبياء، لأن مصر الآن آمنة تماما من هذا الهراء حتى لو انهار السد اليوم! (7)وعلى مدى العشرة أعوام الماضية كانت آلاف الصفحات الموجهة تقوم بحملةٍ شرسة لتسخين المصريين لدفعهم للضغط على الإدارة المصرية لارتكاب حماقاتٍ استراتيجية. وهنا أود الإشارة إلى من سقطوا فى هذا الفخ الدعائى من مثقفى ومتعلمى مصر دون بذل محاولة معلوماتية جادة لفهم ما تقوم به مصر فى هذه المواجهة.فى تلك الأعوام العشرة، كان رجال مصر يقومون بالعمل فى صمت لتحقيق عدة أهداف متوازية تم تحديدها بناءً على أسوأ السيناريوهات التى يمكنها أن تقع. كان الهدف الأول هو تأمين مصر مائيا عبر عدة محاور منها تقليل الفاقد فى عمليات الرى الزراعية بتبطين الترع، واستبدال بعض المحاصيل بأخرى بديلة أقل استهلاكا للمياه، والاستفادة من حصة مصر من المياه الجوفية المشتركة بينها وبين ليبيا وتشاد والسودان فى مشاريع الاستصلاح الحديثة. كان الهدف الثانى الموازى هو تأمين مصر من خطر انهيار جزئى أو كلى للسد، أو سوء تشغيل السد بدفع كميات كبيرة للتصريف دون تنسيق مع مصر والسودان، وذلك بما رأيتُ بنفسى عند منطقة مفيض توشكى. والخلاصة أنه حتى لو انهار هذا السد فمصر الآن لديها قدرة استيعابية ضخمة لهذه المياه سواء فى بحيرة ناصر أو مفيض توشكى ولن تصل أى كميات مياه تمثل خطرا على السد العالى أو شماله. فى مرحلة معينة كانت هناك تهديدات باستهداف كهرباء السد العالى، وتم ترويج أكاذيب عن تأثر السد بانخفاض منسوب المياه. لقد قطعت القيادة المصرية الطريق على هؤلاء حين أعلنت أن مصر لا تعتمد بشكلٍ رئيسى على كهرباء السد العالى. وحين بدأت بالفعل فى تعظيم قدرات مصر عبر تشييد أكبر محطات الطاقة الشمسية فى القارة. فالآن مصر آمنة تماما من حيث المياه أو الكهرباء أو مواجهة أية أخطار محتملة حال تعرض هذا السد لخطر الانهيار. والدليل على حقيقية هذه النقطة هو ما أعلنته مصر مؤخرا عن مشروع تعظيم قدرات السد العالى. هذا المشروع هو إعلان انتصار الدولة المصرية فى تحييدها للمخاطر التى كان يتم محاولة ترويجها بين المصريين. (8)ما لم يفهمه كثيرون فى السنوات السابقة – حتى بعض العاملين فى العمل الإعلامى – هو كيفية إدارة مصر بعد ثورة يونيو لهذا الملف. هناك بعض الأشياء لا يمكن لأية إدارة عاقلة أن تخرج وتقوم بتفسيرها للجمهور قبل تحقيقها كاملة، وهى إن فعلت ذلك ستكون كالقائد العسكرى الذى يتطوع بشرح خطته العسكرية لأعدائه قبل خوض المعركة. فى تلك السنوات اكتفت الإدارة المصرية بوعدٍ قطعته على لسان رئيس الجمهورية فى استاد القاهرة..قال السيسى (أنا بوعدكم مفيش نقطة مياه هتتاخد من مصر.) جملة قاطعة حاسمة تكفى. لم يكن مطلوبا منه أو من أى مسؤل رسمى أن يخرج علانية وسط هذه الغابة الإعلامية المعادية ليشرح ما تفعله مصر وكيف تخوض معركتها. لقد سقط فى هذا الاختبار كثيرون جدا فى مصر. بعضهم تعامل مع القضية بمنطق حلبة المصارعة، إما أن تقوم مصر بعمل عسكرى أحمق أو أنها تعتبر مهزومة مغلوبة على أمرها. وأنا أندهش كثيرا جدا من هؤلاء الذين لم أسمع لهم صوتا فى هذه المسألة قبل تدشين السد رسميا. لم يتحدث أحدهم عن أزمة مصر الإفريقية ولا عن مشاريع ومؤامرات بعض دول منابع النيل وهى كانت أمرا واقعا على الأقل عشرة سنوات قبل تنحى مبارك! ثم فجأة انقلبوا للمزايدة الصارخة على موقف الإدارة المصرية الأقوى فى تعاملها مع الملف. تعامل بعضهم مع القصة وتحديد موقف مصر عبر عبارة (أن يتم بناء السد أو لا يتم!) دون الالتفات إلى حقائق الأرض. فلقد بدأ بناء السد بالفعل فى ذروة انتشاء المصريين بتنحى مبارك، ولقد أُنجز من بناء السد أكثر من عشرين بالمائة أثناء حكم جماعة الإخوان. وعلى إثر مؤتمر الخيانة الذى كان بطله محمد مرسى تلككت إثيوبيا وقطعت المفاوضات مع مصر، وتقدمت بشكوى رسمية للأمم المتحدة بأنها تتعرض لتهديد مصرى وقدمت شريط المؤتمر الإخوانى كسند ووثيقة! عشرون بالمائة من السد تم إنجازها فى عام حكم الجماعة، وعشرون بالمائة أخرى بعد ذريعة التهديد المصرى! أتى السيسى لحكم مصر وهناك ما يقرب من نصف السد قد تم بناؤه برعاية أمريكية وتمويل أمريكى عبر شركات متعددة الجنسيات. فى العام الأول لحكم السيىسى استطاع بالفعل الحصول على وثائق قانونية جديدة تضمن لمصر حقها المائى. وكان أمامه حلٌ سهل جدا لكنه حلٌ غير وطنى وغير شريف. أن يوافق صمتا وضمنا على بناء السد وأن يكتفى بما يفعله لتأمين مصر مائيا ولم تكن الموافقة سوى أن (يتساهل) ولا يقوم بتصعيد القضية لمجلس الأمن أو المحافل الدولية أو أن يكتفى بحلٍ غير قانونى وغير ملزم ثم تفاجأ مصر بعد فترة بتكرار السيناريو! لكن هدف مصر – الذى عجز عن إدراكه مصريون كثيرون – كان منع منح إثيوبيا سابقة قانونية تعصف بجميع الاتفاقيات الدولية السابقة وتحقق لإثيوبيا ومن خلفها الهدف الحقيقى بالسيطرة الكاملة على حوض النيل ووضع مصر دائما تحت ضغط المساومة والابتزاز حتى ترضخ وتوافق على مشاركة إسرائيل فى مياه النيل! أصرت مصر دائما – وهى تعمل داخليا لتحقيق الأهداف السابقة – على التمسك بالقوانين الدولية والاتفاقيات الدولية السابقة الخاصة بمياه النيل كنهر مشترك. وحصلت مؤخرا على وثائق قانونية دولية ترفض العبث الإثيوبى الزاعم بأن هذه الاتفاقيات تم توقيعها فى عصر الاحتلال الأجنبى ويجب تغييرها! لقد قضت المحاكم الدولية المختصة – بناءً على طلب مصرى – أن اتفاقيات المياه شأنها شأن اتفاقيات الحدود الدولية مهما يكن العصر الذى تم توقيعها فيه وذلك حفاظا على السلم الدولى. أصرت مصر على الوصول لاتفاق قانونى دولى ملزم لإثيوبيا فيما يخص إدارة وتشغيل السد ومشاركة مصر فى هذا التشغيل وموافقتها على الجداول الفنية الخاصة بتشغيله وذلك تطبيقا لبند الحصول على موافقة مصر على أية مشاريع على منبع النيل. تصر مصر الآن على الوصول لغايتها العادلة وهى قد حررت نفسها من التفاوض تحت ضغط بعد نجاحها فى تحقيق الأهداف المشار إليها عبر عشر سنوات. (9)هذه هى النقطة الآن. جسدٌ خرسانى ضخم يعانى كثيرا حتى فى الحفاظ على بقائه، وأضعف من أن يحقق أيا من الأهداف التى تم الإعلان عنها. وإثيوبيا – ورغما عنها – تضطر لتصريف كميات كبيرة من المياه حفاظا على هذا الجسد المريض. لن يتم تحقيق طفرة كهربائية من هذا السد، وإثيوبيا مطالبة – وربما تتعرض لابتزاز ترامب قريبا – بتسديد مديونياتها لعجز السد عن تحقيق خططه، وربما تتم مساؤلة أوباما على ذلك كما تمت مساءلته عن ثمانية مليارات قدمها لجماعة الإخوان فى مصر! وعلى الجانب الآخر فى مصر، فمصر الآن مطمئنة وتخوض الفصل الأخير من المواجهة وهو الفصل الخاص بالحسم القانونى والذى أتوقع حدوثه قريبا جدا، وأتوقع أن تطلب إثيوبيا بعد هذا الحسم الاستعانة بخبرات مهندسى الرى المصريين فى محاولة للخروج من ورطتها الداخلية وإدراك أى مكاسب محلية. بعد عام 2011م وحتى 2015م كنت أقوم – لمدة شهرين كل عام – بالعمل بالإرشاد السياحى لمجموعات من المصريين على متن إحدى البواخر السياحية فى بحيرة ناصر، وكنت أحرص على إلقاء محاضرة مطولة عن هذا الملف. بعد ثورة يونيو أصبحتُ أكثر تفاؤلا، وفى إحدى تلك المحاضرات أخبرتهم أن توقعى الشخصى أن مصر سوف تحسم هذا الصراع القانونى لصالحها فى نهاية المطاف، خاصة أن دول منابع النيل ليست فى حاجة حقيقية لمزاحمة مصر فى حصتها المائية، وأن هناك مئات المليارات من المترات المكعبة من المياه تُفقد هناك سنويا دون الإفادة منها، وأن مصر منفتحة تماما على المشاركة فى أية خطط تنموية إفريقية وأنها قدمت بالفعل فى فعاليات مبادرة حوض النيل بعضا من هذه الخطط. أخبرتُهم أن السد سياسى فى المقام الأول وأن مشكلة مصر فى قوتها أو ضعفها بما تشتمله كل مكونات القوة. فوجئت بعدها بأن أحد الحاضرين كان سفيرا مصريا فى دولة إفريقية مهمة من دول حوض النيل وأثنى على ما أوردته من معلومات، ثم تحدثنا سويا طويلا حديثا ملخصه التأكيد على فكرة انسحاب دولة مبارك أو تخفيف تواجدها الإفريقى بما أضرّ بموقف مصر الإفريقى.(10)محاولة التسلل الإسرائيلى لدول حوض النيل قديمة. هناك بحثٌ يعود تاريخه إلى عام 1965م يحذر من خطورة ما تقوم به إسرائيل فى الدول الإفريقية للالتفاف لحصار مصر من الجنوب وذلك حسب مقال منشور فى جريدة الجمهورية بتاريخ 8مايو 2010م. وفى عام 2009م قام وزير خارجية إسرائيل بجولة لخمسة من دول حوض النيل ومعه وفدٌ يضم ممثلى شركات إسرائيلية كبرى فى مختلف المجالات كالزراعة والصناعات العسكرية. وفى عام 2010م نُشرت وثيقة منسوبة لسفير إسرائيلى سابق فى مصر (مزائيل) يطالب فيها بتدويل النزاع على حصص المياه بين دول المنبع من جهة، ودولتى المصب من جهة أخرى. كما كشفت إسرائيل علنا عن رغبتها فى شراء مياه النيل وهذا يفسر سر ملحق المشاطئة بمسودة اتفاقية عنتيبى الموقعة صيف 2010 بدون مصر والسودان. فالقوانين الدولية تمنع مشاركة دولة فى مياه نهر لا ترتبط جغرافيا به. تم تفصيل هذا الملحق للتحايل على هذا القانون الدولى. يحاول الملحق منح دول حوض النيل الحق فى نقل أو بيع المياه لدولة أخرى بشرط أن يكون لها شواطىء مشتركة مع إحدى دول حوض النيل! وضع هذا الملحق تمهيدا لمرحلة مقبلة يتم خلالها إجبار مصر على تمرير مياه النيل عبر أراضيها لإسرائيل باعتبار تشاركهما فى شواطىء المتوسط. شخصيا لا أندهش أو حتى أتوقع غير ذلك من الكيان الصهيونى. فهو كيانٌ معادٍ لمصر وسيظل كذلك، وله أطماعه المعلنة السافرة فى أرض مصر، ومن المنطقى والبديهى جدا أن يحاول هذا الكيان تحقيق أطماعه بشتى الطرق والوسائل وهذه الطرق الصهيونية معروفة ومكشوفة تماما. شراء حكام وساسة بعض الدول الفقيرة..السيطرة على حكام وساسة دول أخرى بوسائل ليس لها أى سقف من شرف أو مبادىء..العبث بالقوانين الدولية التى لا تكتسب لدى الكيان أية أهمية إلا فى حالة واحدة، أن تكون الدولة التى تواجه الكيان دولة قوية، فوقتها فقط يتم تفعيل القوانين الدولية! إنما مثار دهشتى وغضبى هو أن ندرك نحن العامة هذه البديهيات، ثم يسقط فى خطيئة عدم إدراكها نظامُ حكم بالكامل، أو يدركها لكنه يجبن عن الدفاع عن حق بلاده. (11)إن أحد الأسباب الرئيسية لدعمى بقوة لنظام وإدارة السيسى فى حكم مصر أن لديه إدراكٌ عظيم لحقائق جذور مشاكل مصر. ومن تلك المشاكل أزمة سد النهضة التى لا يمكن التعامل معها كمشكلة منفصلة بين دولتين فقط تبحث عن حل أو توافق. لكنها جزءٌ من كل، وهذا الكل يخص وجود مصر فى القارة ومدى استفادتها الاقتصادية من تحقيقها لمستوى متقدم فى بعض الصناعات. القارة الإفريقية يمكنها أن تكون سوق كبير لمنتجات مصر دون أن يكون لمصر أية أطماع فى مقدرات أى دولة أو شعب، بل على العكس فتاريخ علاقات مصر يشهد بأنها كانت دائما تمنح وتعطى وتساعد. حين تولى السيسى حكم مصر كانت هذه العلاقات المصرية الإفريقية فى أسوأ مراحلها، بينما توهجت العلاقات الإفريقية الإسرائيلية. واجه السيسى هذا الموقف بكل هدوء وثبات انفعالى ورؤية واضحة قوية لإدراك الموقف. فى سنوات قليلة عادت مصر لصدارة المشهد الإفريقى وعادت القاهرة لتكون قبلة لرؤساء وزعماء دول إفريقيا. ثم كان الوصول لحقائق على الأرض مثل تلك الاتفاقية التجارية، وقريبا سيكون حسم ملف سد النهضة بما يتفق ورؤية مصر، ثم الربط البرى والكهربائى بين مصر وبعض الدول الإفريقية. لقد وقع رئيس مصر فى السنوات القليلة الماضية العديد من اتفاقات الشراكة الثنائية مع كثيرٍ من دول إفريقيا. لقد نجح هذا الرجل نجاحا لا يمكن إنكاره فى تصويب أخطاء وخطايا عقودٍ سابقة وأصبح بحقٍ امتدادا حقيقيا لقادة مصر الذين أدركوا أهمية الوجود المصرى فى قارتها. (إن وجوب امتلاك مصر لقوة عسكرية عصرية متطورة باستمرار، وقادرة على مواجهة قدر مصر وتحدياتها، وحماية ثرواتها، ليس اختيارا لكنه قضية مصير لا تقبل أى مواءمة أو مساومة أو تردد. وعلى كل قيادة مصرية أن يكون ذلك على قائمة أولوياتها وواجباتها الحتمية.) هذه الفقرة من الفصل الختامى للكتاب الأسود يكشف أحد أسرار ما قامت به إدارة الرئيس السيسى. فمن حقيقة وعيه بجغرافيا مصر السياسية بشكل حقيقى وما تواجهه وسوف تظل تواجهه باستمرار أدرك السيسى هذه الحتمية الوجودية لمصر والتى ينبغى على أى قيادة أن تدركها مستقبلا. مصر لن تستطيع الدفاع عن بقائها بغير هذه القوة العسكرية الرادعة. وفيما يخص موضوع المقال أقول إننى أعتقد أن نجاح مصر بنسبة كبيرة فى تحقيق هذه القوة العسكرية الرادعة، مع احترافية القيادة فى عدم الإسهاب فى الحديث ذى الصبغة العسكرية فى مخاطبة المجتمع الدولى هو ما سوف يحقق حسم قانونى ترتضيه مصر لملف سد النهضة. وهو أيضا ما سوف يدفع كثيرا من دول أفريقيا للثقة فى استقرار الدولة المصرية كقوة إفريقية معتدلة وسيدفع هذه الدول لتعظيم تعاونها مع مصر لتحقيق مصالح متبادلة. آخر تصريحات ترامب فى هذا الشأن هو تأكيد على تخطى مصر لمرحلة الخطر والضعف وإمكانية القيام بابتزازها. الحقوق لا تُمنح من القوى العظمى لأى دولة خاصة من دول هذه المنطقة، إنما تُنتزع ببناء قوة وطنية قادرة على أقل تقدير على تحقيق الردع ودفع أى قوة إقليمية أو دولية للتفكير كثيرا قبل اتخاذ قرارات معادية لتلك الدولة.(12)لكل ما سبق، فإننى كمواطن مصرى – تابعت الجذور التاريخية لهذا الملف، ثم تتبعت تطوراته عبر سنوات مبارك وحتى الآن – أتوجه بشكرٍ مستحق لرجال مصر الذين صانوا حقوق مصر وصوبوا مسارها الإفريقى وعلى رأس هؤلاء الرئيس السيسى. وأتمنى أن أتوجه له بشكرٍ آخر قريبا جدا بعد أن تقوم الدولة المصرية بتصويب أدائها فى ملفٍ يحتوى كثيرا من المخاطر وهو ملف الأجانب فى مصر. وحتى أكون منصفا يجب ألا ننسى أن هناك ملايين قد عبروا إلى مصر فى عامى 2011م و2012م، وخاصة حين تولت الجماعة حكم مصر وأعلنت على لسان مرسى عن محاولة توريط مصر وجيشها فى سوريا. وفى هذا العام فقط فتحت الجماعة عمدا ثغور مصر على مصراعيها أمام الموالين لها من بعض الدول العربية. لذلك فهذا الواقع كان من جملة الكوارث التى وجدها السيسى قائمة بالفعل على أرض مصر. وعبر سنوات مواجهة مصر عسكريا للدفاع عن حدودها الشرقية تكونت فى مصر ما يشبه بعصابات تهريب جبلية حدودية جنوبا ولقد استطاع هؤلاء إدخال أعداد ليست قليلة عبر دروب جبلية ممتدة بطول حدود مصر البالغة ألف كيلومترا..فهذه مواجهة مثل باقى مواجهات الدولة المصرية ونحن كمصريين سنكون دائما مساندين لمصر فى كل خطواتها التى أتمنى ألا تتأخر كثيرا أو تأتى بعد فوات الأوان.